قصة مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

روى مسلم في صحيحه، أن عمر رضي الله عنه خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ دِيكًا نَقَرَنِي ثَلَاثَ نَقَرَاتٍ، وَإِنِّي لَا أُرَاهُ إِلَّا حُضُورَ أَجَلِي، (وفي روايةٍ لأحمدَ وابنِ أبي شيبةَ  وغيرهما: فَقَصصتُها على أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ ، فَقَالَتْ : إنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاك ، قَتَلَك رَجُلٌ مِنَ الْعَجَمِ).

كانت هذه الخُطبةُ آخرَ خُطبةِ جمعةٍ خطبها سيدُنا عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه

وكانت بعد أن عاد من الحج، وكانت في الثاني والعشرين من شهر ذي الحجة سنةَ ثلاث وعشرين من الهجرة، وقد أخبرَ الناسَ في خُطبته تلك، بأنه رأى في منامه في ليلته السابقة أن ديكاً أحمرَ نقره نقرتين أو ثلاثَ نقراتٍ، وقد قصَّ رؤياه على معبرةٍ أمينةٍ موثوقةٍ متقنةٍ لعلم تأويلِ الأحلام والرؤى، وهي السيدةُ الجليلةُ أسماءُ بنتُ عُميسٍ زوجةُ شيخِ الصحابة، سيدِّنا أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه خليفةِ رسول الله ﷺ ، وقد عبرت الديكَ الأحمرَ برجلٍ أعجمي غيرِ عربي، وعبرتْ نقرَ الديكِ بالقتل،

وقد وقعت الرؤيا كما عبرت

فبعد خمسةِ أيام، وفي أثناء صلاة الصبحِ من يوم الأربعاء، وبعد أن وقف عمرُ يسوي الصفوف، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ كَبَّرَ تكبيرةَ الإحرام، حتى هجم عليه أبو لؤلؤةَ المجوسي فطعنه بِسِكِّينٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ، ولْندع البخاريَّ يحدثنا عن ذلك تفصيلا عن رجلٍ شاهد مقتلَ عمر، إذ كان في الصف الثاني في الصلاة.
فقد أخرجَ البخاريُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَبْلَ أَنْ يُصَابَ بِأَيَّامٍ بِالْمَدِينَةِ … فَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا رَابِعَةٌ حَتَّى أُصِيبَ، قَالَ: إِنِّي لَقَائِمٌ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ غَدَاةَ أُصِيبَ، وَكَانَ إِذَا مَرَّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، قَالَ: اسْتَوُوا، حَتَّى إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِنَّ خَلَلًا تَقَدَّمَ فَكَبَّرَ، وَرُبَّمَا قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ أَوِ النَّحْلَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ كَبَّرَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَتَلَنِي – أَوْ أَكَلَنِي – الكَلْبُ، حِينَ طَعَنَهُ، فَطَارَ العِلْجُ (هو الرجل من كفار العجم) بِسِكِّينٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ، لاَ يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ يَمِينًا وَلاَ شِمَالًا إِلَّا طَعَنَهُ، حَتَّى طَعَنَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مَاتَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ طَرَحَ عَلَيْهِ بُرْنُسًا(كساء يجعله الرجل في رأسه)، فَلَمَّا ظَنَّ العِلْجُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ نَحَرَ نَفْسَهُ، وَتَنَاوَلَ عُمَرُ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ، فَمَنْ يَلِي عُمَرَ فَقَدْ رَأَى الَّذِي أَرَى، وَأَمَّا نَوَاحِي المَسْجِدِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَدْرُونَ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَدْ فَقَدُوا صَوْتَ عُمَرَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَصَلَّى بِهِمْ عَبْدُالرَّحْمَنِ صَلاَةً خَفِيفَةً، فَلَمَّا انْصَرَفُوا قَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، انْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي، فَجَالَ سَاعَةً ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: غُلاَمُ المُغِيرَةِ،(يعني أبا لؤلؤة المجوسي) قَالَ: الصَّنَعُ؟(الصانع وكان نجارا وقيل نحاتا للأحجار) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَمَرْتُ بِهِ مَعْرُوفًا، الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مِيتَتِي بِيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الإِسْلاَمَ …فَاحْتُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ فَانْطَلَقْنَا مَعَهُ، وَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ يَوْمَئِذٍ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: لاَ بَأْسَ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: أَخَافُ عَلَيْهِ، فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ (نقيع التمر والزبيب قبل أن يشتد ويصبح مسكرا) فَشَرِبَهُ، فَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ فَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ مَيِّتٌ،

فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، وَجَاءَ النَّاسُ، فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ لَكَ، مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، وَقَدَمٍ فِي الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ شَهَادَةٌ، قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَافٌ لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِي، فَلَمَّا أَدْبَرَ إِذَا إِزَارُهُ يَمَسُّ الأَرْضَ، قَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الغُلاَمَ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي ارْفَعْ ثَوْبَكَ، فَإِنَّهُ أَبْقَى لِثَوْبِكَ، وَأَتْقَى لِرَبِّكَ، يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، انْظُرْ مَا عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ، فَحَسَبُوهُ فَوَجَدُوهُ سِتَّةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا أَوْ نَحْوَهُ، قَالَ: إِنْ وَفَى لَهُ، مَالُ آلِ عُمَرَ فَأَدِّهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَإِلَّا فَسَلْ فِي بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَإِنْ لَمْ تَفِ أَمْوَالُهُمْ فَسَلْ فِي قُرَيْشٍ، وَلاَ تَعْدُهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَأَدِّ عَنِّي هَذَا المَالَ. انْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلاَمَ، وَلاَ تَقُلْ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي لَسْتُ اليَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا، وَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ، فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي، فَقَالَ يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ السَّلاَمَ، وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ، فَقَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، وَلَأُوثِرَنَّ بِهِ اليَوْمَ عَلَى نَفْسِي،

فَلَمَّا أَقْبَلَ، قِيلَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَدْ جَاءَ، قَالَ: ارْفَعُونِي، فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَذِنَتْ، قَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمْ، فَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَأَدْخِلُونِي، وَإِنْ رَدَّتْنِي رُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ،

وَجَاءَتْ أُمُّ المُؤْمِنِينَ حَفْصَةُ وَالنِّسَاءُ تَسِيرُ مَعَهَا، فَلَمَّا رَأَيْنَاهَا قُمْنَا، فَوَلَجَتْ عَلَيْهِ، فَبَكَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، وَاسْتَأْذَنَ الرِّجَالُ، فَوَلَجَتْ دَاخِلًا لَهُمْ، فَسَمِعْنَا بُكَاءَهَا مِنَ الدَّاخِلِ، فَقَالُوا: أَوْصِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ اسْتَخْلِفْ، قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاَءِ النَّفَرِ، أَوِ الرَّهْطِ، الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ،

وَقَالَ: يَشْهَدُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ – كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ – فَإِنْ أَصَابَتِ الإِمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ، وَلاَ خِيَانَةٍ،

وَقَالَ: أُوصِي الخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي، بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَيَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالأَنْصَارِ خَيْرًا، {الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَأَنْ يُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِأَهْلِ الأَمْصَارِ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ رِدْءُ الإِسْلاَمِ، وَجُبَاةُ المَالِ، وَغَيْظُ العَدُوِّ، وَأَنْ لاَ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ إِلَّا فَضْلُهُمْ عَنْ رِضَاهُمْ. وَأُوصِيهِ بِالأَعْرَابِ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ أَصْلُ العَرَبِ، وَمَادَّةُ الإِسْلاَمِ، أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ، وَيُرَدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ، وَذِمَّةِ رَسُولِهِ ﷺ أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلاَ يُكَلَّفُوا إِلَّا طَاقَتَهُمْ،

فَلَمَّا قُبِضَ خَرَجْنَا بِهِ، فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي، فَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، قَالَتْ: أَدْخِلُوهُ، فَأُدْخِلَ، فَوُضِعَ هُنَالِكَ مَعَ صَاحِبَيْهِ،

فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ اجْتَمَعَ هَؤُلاَءِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلاَثَةٍ مِنْكُمْ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ طَلْحَةُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عُثْمَانَ، وَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَيُّكُمَا تَبَرَّأَ مِنْ هَذَا الأَمْرِ، فَنَجْعَلُهُ إِلَيْهِ وَاللَّهُ عَلَيْهِ وَالإِسْلاَمُ، لَيَنْظُرَنَّ أَفْضَلَهُمْ فِي نَفْسِهِ؟ فَأُسْكِتَ الشَّيْخَانِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَيَّ وَاللَّهُ عَلَيَّ أَنْ لاَ آلُ عَنْ أَفْضَلِكُمْ قَالاَ: نَعَمْ، فَأَخَذَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَقَالَ: لَكَ قَرَابَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالقَدَمُ فِي الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، فَاللَّهُ عَلَيْكَ لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ، وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ، ثُمَّ خَلاَ بِالْآخَرِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَخَذَ المِيثَاقَ قَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ يَا عُثْمَانُ فَبَايَعَهُ، فَبَايَعَ لَهُ عَلِيٌّ، وَوَلَجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ “

وفي هذه القصةِ فوائدُ متعددة،

سنكتفي منها بفائدتين اثنتين، واحدةٌ منهما تتعلق بعلم التعبير، والثانيةُ تتعلق بالسياسة الشرعية.

أما الفائدة الأولى التي تتعلق بعلم التعبير،

فقد ذكرنا قبلُ أن مِن آداب الرؤيا المكروهة عدمَ التحدثِ بها، وعدمَ تفسيرها؛ لأن الرؤيا تقعُ على ما تعبر عليه، إلا إذا كان هنالكَ مصلحةٌ من ذِكرها أو تعبيرِها، ومن أجل ذلك أجازَ السادةُ العلماءُ أنْ يذكر الحالمُ رؤياه السيئةَ للعالمِ المعبرِ دون الجاهل،

وهذا ما فعله عمرُ حين قصَّ رؤياه على أسماءَ بنتِ عميس، وذلك أن العالم بفن التعبير إما أنه سيؤولها على الخير إن وجدَ لها وجهاً معتبراً من وجوه تأويلها، وإما أنه سيسكتُ عن تفسيرِها، وإما أن سيُعبرُها على المكروه إذا لم يجد لها وجها من وجوه تعبيرها على الخير، ووجدَ المصلحةَ في تعبيرها وتحذيرِ الحالم مما سيأتيه من الشرور المحتَملَة، وهذا ما فعلته المعبرةُ القديرةُ أسماءُ بنتُ عميس زوجةُ أبي بكرٍ الصديق، فقد أخبرتْ عمرَ بتعبيرِ رؤياه المكروهةَ التي تنبئُ بمقتلِه على يد رجلٍ أعجمي، وكان لابد لها أن تخبرَه، فإن مقتلَه سيكون له أثارُهُ الكبيرةُ على الأمةِ الإسلامية، لا سيما وهو بعدُ لم يستخلف، وقد سئل مالكٌ: هل يعبرُ الرؤيا على الخير، وهي عنده على المكروه؟ قال: لا، الرؤيا جزء من النبوة، فلا يتلاعب بالنبوة” وهذا المنهجُ العلميُّ الدقيقُ هو الذي نتبعه في برنامج رؤيا في نور دبي ولله الحمدُ والمنة.

وأما الفائدةُ الثانيةُ المتعلقةُ بالسياسةِ الشرعية،

فإن الناس لما حملوا عمر إِلَى بَيْتِهِ، وأَتوه بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ فَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ، عَلِمُوا أَنَّهُ مَيِّتٌ، قَالُوا: أَوْصِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ اسْتَخْلِفْ، وكانوا قد ألحوا عليهِ قبل ذلك، بأن يستخلف خليفةً بعده يتولى الأمرَ إذا مات، وهو ما فعله الصِّديقُ قبل ذلك حينما اختار عمرَ ولياً للعهد، وقال:

اللهم إنِّي لَم أرد بذلك إلا صلاحهم وخفت عليهم الفتنة

 فكان الناسُ في عهد أبي بكر يعرفون من سيتولى الأمر مِن بعده، فلما مات انتقلَ الحكمُ لعمرَ بكل سلاسة وأريحية، إن إلحاحَ الصحابةِ على عمر بأن يستخلفَ حاكما بعده، يدل على وعيٍ سياسيٍ متعمق، وليس هذا بغريب عليهم، وهم الذين بايعوا أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن يدفنوه، فقد كرهوا أن يبيتوا ليلةً واحدةً دونَ حاكمٍ، وقد قال القائلُ :

ستون سنة من سلطان ظالم خيرٌ من ليلةٍ واحدةٍ بلا سلطان

.وما أحسنَ قولَ ابن المبارك:

لولا الأئمة لم تَأْمنْ لنا سبل وكان أضعفُنا نهبا لأقوانا

وهكذا خاف الصحابةُ الفتنةَ واختلافَ الناسِ عند اختيارِ الحكام، فأرادوا أن يحسموا هذا الملفَ الخطير، وأن يقتلعوا جذورَ الفتنة، فطلبوا من عمرَ أن يستخلف، وأن يسمي حاكما بعينه، وقد نقل هذا التخوفَ إلى عمرَ ابنُه عبدُ الله، فقد أخرج مسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال:
“دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَتْ: أَعَلِمْتَ أَنَّ أَبَاكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ؟
قَالَ: قُلْتُ: مَا كَانَ لِيَفْعَلَ!
قَالَتْ: إِنَّهُ فَاعِلٌ!
قَالَ: فَحَلَفْتُ أَنِّي أُكَلِّمُهُ فِي ذَلِكَ، فَسَكَتُّ حَتَّى غَدَوْتُ وَلَمْ أُكَلِّمْهُ، قَالَ: فَكُنْتُ كَأَنَّمَا أَحْمِلُ بِيَمِينِي جَبَلًا حَتَّى رَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْ حَالِ النَّاسِ وَأَنَا أُخْبِرُهُ، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ مَقَالَةً، فَآلَيْتُ أَنْ أَقُولَهَا لَكَ، زَعَمُوا أَنَّكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ، وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَكَ رَاعِي إِبِلٍ، أَوْ رَاعِي غَنَمٍ، ثُمَّ جَاءَكَ وَتَرَكَهَا رَأَيْتَ أَنْ قَدْ ضَيَّعَ فَرِعَايَةُ النَّاسِ أَشَدُّ!

من أجل ذلك فضَّلَ جماعةٌ من علماءِ السياسةِ الشرعيةِ طريقةَ ولاية العهد في انتقالِ السلطةِ، منهم ابنُ حزم، إذ يقول: ” عقدُ الإمامةِ يصحُ بوجوه:

أولُها وأفضلُها وأصحها:

أن يعهد الإمامُ الميت إلى إنسان يَختاره إمامًا بعد موته، وسواءٌ فعل ذلك في صحته، أو في مرضه، أو عند موته، إذ لا نص ولا إجماعَ على المنع من أحد هذه الوجوه .. وهذا هو الوجه الذي نَختاره، ونكرَهُ غيره، لما في هذا الوجهِ من اتصال الإمامة، وانتظام أمرِ الإسلام وأهله، ورَفْعِ ما يُتخوف من الاختلاف والشغب”

ولما آلت الأمور إلى معاوية رضي الله عنه، واستشرف مستقبل الأمة، وقد تأكدَ له أن أكثر ما يُهددُ وحدتَها ويُضعفُ قوتها هو الخلاف حول الحكم والخلافة، فكم نزفَ من الأمة من دماءِ بسبب الخلاف حول الحكم، فكان لابد من حسم هذا الملف ليلقى معاويةُ ربَّه وقد برئت ذمتُه ونصح لأمتِه، وقد علم أن السياسةَ الشرعيةَ لا تُلزمُ الأمةَ بطريقةٍ معينةٍ لانتقال السلطة وتوليةِ الحكام “فقد سكت الإسلام عن تفصيل ذلك، ليتسعَ لأهلِ كلِّ بلدٍ أن يختاروا من طرق إسناد الحكمِ ما يحققُ مصالحَ الأمة، ويلائمُ طبيعةَ المرحلةِ العصرية التي تمر بهم .. ومن ثم فإن كل وسيلةٍ تؤدي إلى تحقيقِ المصلحة واستقرارِ الأمن فهي طريقةٌ شرعية،

إذ العبرةُ ليست في الشكل والوسيلة

وإنما في الجوهرِ وحسن الاختيار والنأي بالأمةِ عن مواردِ النزاع ومنابع الفساد”  قال ابنُ خَلدون: والذي دعا معاوية إلى إيثار ابنه يزيدَ بالعهد دون من سواه، إنَّما هي مراعاةُ المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية، إذ بنو أمية لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش، وأهل الملة أجْمع، وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يُظن أنه أولَى بِها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصًا على الاتفاق واجْتماع الأهواء، الذي شأنه أهمُّ عند الشارع، وإن كان لا يُظنُّ بِمعاويةَ غيرَ هذا، فعدالته وصُحبتهُ مانعةٌ من سوى ذلك .. ” إلى آخر ما قاله ابن خَلدون في الدفاع عن معاوية رضي الله عنه،

ونخلصُ من ذلك كلهِ إلى أن طريقةَ ولايةِ العهد، ونظامَ الحكم الوراثي من أقوى أسباب الأمنِ والاستقرارِ والرخاء.
هذا ما نستفيدُه مِن قصةِ مقتلِ عمرَ بن الخطاب التي وقعت كما رآها في المنام.