شرح (باب الرُّؤْيَا بِالنَّهَارِ) من كتاب التعبير من صحيح البخاري

نحن مع الباب الثاني عشر (باب الرُّؤْيَا بِالنَّهَارِ) وقد كنا نشرح عبر الحلقتين الماضيتين بابَ رؤيا الليل)

قال البخاري رحمه الله:

(باب الرُّؤْيَا بِالنَّهَارِ) وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ رُؤْيَا النَّهَارِ مِثْلُ رُؤْيَا اللَّيْلِ.

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَأَطْعَمَتْهُ، وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ” نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا البَحْرِ، مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ، أَوْ: مِثْلَ المُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ ” – شَكَّ إِسْحَاقُ – قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ» كَمَا قَالَ فِي الأُولَى، قَالَتْ:فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: «أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ» فَرَكِبَتِ البَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ البَحْرِ، فَهَلَكَت

أراد البخاري أن يبين أن رُّؤْيَا اللَّيْلِ تُسَاوِي الرُّؤْيَا الَّتِي بِالنَّهَارِ، وأنهما لا يتفاوتان في الصدق وصحة التعبير، وأكد ذلك بنقلٍ عزيز عن إمام فن التعبير محمد بنِ سِيرِينَ إذ يقول:

“رُؤْيَا النَّهَارِ مِثْلُ رُؤْيَا اللَّيْلِ”

وإذا كان البخاريُّ قد أخرج بسندهِ المتصل في البابِ السابق بابِ رؤيا الليل رؤيين اثنتين للنبي ﷺ رآهما بليلٍ, فإنه قد أخرج ها هنا في باب رؤيا النهار رؤيا واحدة رآها ﷺ نهارا وقت القيلولة

قَوْله: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَأَطْعَمَتْهُ، وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ) كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يفعل ذلك إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ كما في بعض الرويات، وكان يزور مسجد قباء يوم السبت من كل أسبوع، وأم حرام: هي زوجة عُبَادَةَ بن الصَّامِت، وَأُخْت أم سليم، وَخَالَة أنس بن مَالك، وقد اتّفق أكثر الْعلمَاء على أَنَّهَا كَانَت محرما للنبي ﷺ وَاخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة ذَلِك فقال بعضهم كَانَت إِحْدَى خالاته من الرضَاعَة. وقَوْله: (فَأَطْعَمَتْهُ، وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ) أقول: لم يكن في رأسه ﷺ قمل، فهو أطهرُ الناسِ وأحسنهم نظافة على الإطلاق، وإنما كانت خالته أمُ حرام تفعلُ ذلك مؤانسةً له ﷺ وملاطفةً ومحبةً.

وفي منامه عليه السلام عند أم حرامٍ : جوازُ القيلولة عند المعارف وثقات الأصدقاء، وأن ذلك مما يثبت المودة ويؤكد المحبة، كما يدل على فوائد القيلولة من الناحية الصحية والنفسية، وقد كتب الباحثون الغربيون في فوائدها مؤلفات عديدة، فحافظ غلى القيلولة ولو لمدة عشرين دقيقة كما يقررون.

وَقَوْلُهُ “فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟” وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّ ضِحْكَهُ إنَّمَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ رَآهُ فِي نَوْمِهِ أَوْ تَذَكَّرَهُ عِنْدَ يَقَظَتِهِ فَسَأَلَتْهُ أُمُّ حَرَامٍ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَتْ مَا يُضْحِكُك يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلِمَتْ أَنَّ ضِحْكَهُ وَسُرُورَهُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ أَمْرٍ فِيهِ خَيْرٌ، فَقَالَ ” نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ ( يعني في المنام) غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا البَحْرِ، ( يعني ظهرَ البحر أو وسطه) مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ، أَوْ: مِثْلَ المُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ ” يَشُكُّ الرَّاوِي وهو إسحاقُ شيخُ مالك، يشكُ أَيَّهُمَا قَالَ النبي ﷺ وهذا من دقةِ الرواةِ وشدةِ تحريهم جزاهم الله خيرا عن الإسلام والسنة.

وقوله مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ أَرَادَ أَنه رأى في منامهِ الْغُزَاة فِي الْبَحْر على الأسرة فِي الْجنَّة، كما قال تَعَالَى: {{عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَة}} قَالَ النَّوَوِيّ وَالأَصَح أَنه صفة لَهُم فِي الدُّنْيَا أَي رآهم في المنام يركبون مراكب الْمُلُوك لسعةِ حَالهم وقوةِ أَمرهم وَكَثْرَة عَددهمْ، فكأنهم الملوك على أسرتهم.

قولها:” فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ” ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ» هذه رؤيا ثانية رآها عليه السلام ولم يذكر أنهم كانوا في البحر كما ذكر في الأولى، ولذلك قال أكثرُ العلماء: إن رؤياه الأولى في البحر، ورُؤْيَاهُ الثَّانِيَة كَانَت فِي الْبر، فوصف حَالهم في الْبر وَالْبَحْر بِأَنَّهُم مُلُوك على الأسرة.
” قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ” وذلك حِرْصًا منها رضي الله عنها عَلَى أَنْ تَنَالَ أَجْرَ الْغَزْوَيْنِ وَيَكُونَ لَهَا فَضِيلَةُ الطَّائِفَتَيْنِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ” إعْلَامًا لَهَا بِأَنَّهَا لن تَشْهَدَ غَزْوَةَ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهَا أَنَّ ذَلِكَ لأنها ستموت بعد الغزوة الأولى، كما سيأتي، فَرَكِبَتِ البَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ البَحْرِ، فَهَلَكَت”
فَكَانَ هَذَا تَحْقِيقًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَتَبْيِينًا أَنَّ الْمَانِعَ لَهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ الْآخَرِينَ أَنَّ عُمْرَهَا يَنْقَضِي قَبْلَ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ الْوَاضِحَةِ

وفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ غَازِيًا أَوَّلُ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ نَزَلُوا الشَّامَ فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ” وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أُمِّ حَرَامٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا: ” «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا، قُلْتُ: أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَنْتِ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ، فَقُلْتُ: أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: لَا» ” قَالَ العلماء: وفِي الحديثِ مَنْقَبَةٌ لِمُعَاوِيَةَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ، وكَانَ ذلك فِي إمارته على الشام فِي خلَافَة عُثْمَان سنة ثَمَان وَعشْرين، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ أَمِيرَ الْجَيْشِ عَلَى غَزَاةِ قُبْرُصَ وَهِيَ أَوَّلُ غَزْوَةٍ كَانَتْ إِلَى الرُّومِ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ السِّيَرِ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ: بل كان ذلك فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.

وَقَالَ ابْن عبد الْبر: إِن مُعَاوِيَة غزا تِلْكَ الْغَزْوَة بِنَفسِهِ. انْتهى. وكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد منع الْمُسلمين من الْغَزْو فِي الْبَحْر شَفَقَة عَلَيْهِم، واستأذنه مُعَاوِيَة فِي ذَلِك فَلم يَأْذَن لَهُ، فَلَمَّا تولى الخلافةَ عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، استأذنه أن يفتح قبرص بحرا فَأذن لَهُ. وَقَالَ: لَا تكره أحدا، من غزاه طَائِعا فاحمله، فَسَار فِي جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم أَبُو ذَر وَعبادَة بن الصَّامِت وَمَعَهُ زَوجته أم حرَام بنت ملْحَان وَشَدَّاد بن أَوْس وَأَبُو الدَّرْدَاء فِي آخَرين، فكان معاويةُ أولَ من غزا فِي الْبَحْر، وَفِي هذا فضلٌ لمعاوية وَأَن الله قد بشر بِهِ نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم، وَلما أَرَادوا الْخُرُوج مِنْ قبرص قدموا لأم حرَام بغلة لتركبها فَسَقَطت عَنْهَا، فَمَاتَتْ هُنَالك في قبرص، فقبرها هُنَالك، وَيَقُولُونَ: قبر الْمَرْأَة الصَّالِحَة.