شرح باب رُؤْيَا اللَّيْلِ من كتاب التعبير من صحيح البخاري 2

مازلنا مع الباب الحادي عشر (باب رُؤْيَا اللَّيْلِ)

وقد أراد البخاري أن يبين فيه وفي البابِ الذي بعده بابِ رؤيا النهار أن رُّؤْيَا اللَّيْلِ تُسَاوِي الرُّؤْيَا الَّتِي تكون بِالنَّهَارِ، وأنهما لا يتفاوتان في درجة الصدق وصحة التعبير، أو كما علق البخاري عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: “رُؤْيَا النَّهَارِ مِثْلُ رُؤْيَا اللَّيْلِ” ذكر البخاريُّ في باب رؤيا الليل رؤيين اثنتين للنبي ﷺ رآهما بليلٍ,الأولى شرحناها في مقال سابق: يقول فيها ﷺ: “بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ الْبَارِحَةَ إِذْ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ حَتَّى وُضِعَتْ فِى يَدِى »

أما الثانية فقال فيها ﷺ:
« أُرَانِى اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَرَأَيْتُ رَجُلاً آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ ، قَدْ رَجَّلَهَا تَقْطُرُ مَاءً، مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ – أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ – يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا فَقِيلَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ؟ ثُمَّ إِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ».

قَوْله ﷺ: أُرَانِي اللَّيْلَة أَي: أرى نَفسِي في المنام، ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ وليس بالماضي، مُبَالَغَةً فِي اسْتِحْضَارِ الرؤيا، وَسَيَأْتِي الحديثُ فِي: بَاب الطّواف بِالْكَعْبَةِ، بِلَفْظ: بَينا أَنا نَائِم رَأَيْتنِي أَطُوف بِالْكَعْبَةِ. وقد سميت كعبة لارتفاعها وتربعها، وكلُّ بيتٍ مربعٍ عند العرب فهو كعبة، وقَوْله ﷺ: “فَرَأَيْتُ رَجُلاً آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ” الآدم: هو أسمر اللون، وأُدْمُ الرِّجَالِ جمع آدمَ وَهُوَ الأسمر، وَقيل: هِيَ من أُدمة الأَرْض وَهُوَ لَوْنهَا وَبِه سمى آدم عَلَيْهِ السَّلَام، لكن ثبتَ في عدةِ أحاديث صحيحة، عن النّبيّ ﷺ في صِفَةِ المسيح “أنَّه: أحمر” منها حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: ” فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ ” وَالْأَحْمَرُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْبَيَاضُ مَعَ الْحُمْرَةِ، كما قال ﷺ: “بُعِثتُ إِلى الأَحمَرِ وَالأَسوَدِ” يعني الأبيضَ والأسود، فلونُ عيسى أسمر أم أبيضُ مشربٌ بحمرة؟ الجواب أبيضُ مشربٌ بحمرة، لكن ليس شديدَ البياض، ولا يعارض هذا الوصفُ وصفَه هنا بأنه آدم وَالْآدَمُ الْأَسْمَرُ، لأن العربَ تسمي الأبيضَ آدمَ أحيانا.

قوله ﷺ: كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ” يُرِيدُ كَأَجمل مَا أَنْتَ تَرَى مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ التي أوضحناها.

و قَوْله: “لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ” ، اللِمَّةٌ الشّعْر الذي تجاوزَ شحمةَ الْأذن، و اللِّمَمِ: جمع لِمَّةٌ فَإِذا بلغ الشعر الْمَنْكِبَيْنِ فَهِيَ جمة، أما الوفرةُ فالشعر إذا بلغ الأذنين. وقَوْله: تَقْطُرُ مَاءً كنايةً عَنْ مَزِيدِ الحُسن وَالنَّضَارَةِ، أي أن لِمَّةَ عيسى كأنها تقطرُ ماءً وإن لم يصبها بلل، يعني كأنه خرج من الحمام، قد رجَّلهَا: أي سرح اللِمَّةَ ونظفها وحسنها. وقَوْله: مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ – أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ – شكٌّ من الرَّاوِي، وليس من النبي ﷺ وَهُوَ جمع عاتق وَهُوَ اسْم لما بَين الْمنْكب والعنق.

وَقَوْلُهُ ﷺ: فَسَأَلْت مَنْ هَذَا فَقِيلَ هَذَا الْمَسِيحُ بْنُ مَرْيَمَ سُمِّيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَسِيحًا، لِأَنَّهُ يمسح الْمَرِيض بِيَدِهِ كالأكمه والأبرص فَيبرأ، وقيل: لِسِيَاحَتِهِ فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ مُسِحَ بِالْبَرَكَةِ حِينَ وُلِدَ، وَقِيلَ لِحُسْنِ وَجْهِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ عَلَى وَجْهِ فُلَانٍ مَسْحَةُ جَمَالٍ، وَ قِيل هو اسم عبراني مَعْنَاهُ: الْمُبَارك، وقيل غير ذلك، فالله أعلم.

قوله ثمَّ إِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ».

قَوْله: ثمَّ إِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ أَي: قصير، كما وُصف في بعض الأحاديث، قَطَطٍ: هُوَ شديدُ جعودةِ الشعر. قَوْله: “أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ” طافيةٌ أي بارزة من طفا الشيء يطفو إذا علا على غيره، فعين الدَّجَّال طافية على وَجهه قد برزت كالعنبة، وَهنالك: من قَرَأَ: طافئة، بِالْهَمْزَةِ ومَعْنَاه: أَن عينه مفقوءةٌ، ذهب ضوؤها كَأَنَّهَا عنبة نَضِجَتْ فَذهب مَاؤُهَا.

قَوْله: “فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ” وَفِي تَسْمِيَة الدَّجَّال بالمسيح أَقْوَال، أقواها لِأَنَّهُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ وَفِي تَسْمِيَته بالدجال أَقْوَال منها: أنه مأخوذ من قولهم: دجل فى الأرض ومعناه: ضرب فيها وطافها، أو من دَجَلَ إذا لبسّ وموهّ، أو من قولهم: دجلت الشىء إذا سترته، كأن يستر الحق ويغطيه ويُلبس بتمويهه، فالله أعلم، وفي الحديث فوائدُ وعبرٌ من الكثرة بمكان