« لَوْ لَبِثْتُ فِى السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ ، ثُمَّ أَتَانِى الدَّاعِى لأَجَبْتُهُ »

حديث أبي هريرة مرفوعا: « لَوْ لَبِثْتُ فِى السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ ، ثُمَّ أَتَانِى الدَّاعِى لأَجَبْتُهُ » أخرجه الشيخان وهذا لفظ البخاري

ولقد لبثَ يوسفُ في السجن كما يقول القرآن بضعَ سنين،

والبضع : ما بين الثلاث إلى التسع كما حكاه الهروي عن العرب، ولذلك اختلف المفسرون في قدر المدة التي لبثها يوسفُ في السجن ، فقيل: سبع، وقيل: أقل، وقيل: أكثر.

والسبب في لبثِ يوسف في السجن هذه المدة

الإضافية سبع سنين، أن الشيطان أنسى ساقي الملك وهو الذي نجا من صاحبيه أنساه أن يذكر للملك قصةَ يوسفَ وأنه دخلَ السجن مظلوما وفي ذلك يقول

قال الحافظ ابن كثير في “تفسيره””ولما ظن يوسف – عليه السلام – أن الساقي ناج قال له يوسف خفية عن الآخر- والله أعلم- لئلا يشعره أنه المصلوب- قال له: اذكرني عند ربك، يقول: اذكر قصتي عند ربك وهو الملك فنسي ذلك الموصَى أن يُذَكِّر مولاه الملك بذلك، وكان من جملة مكايد الشيطان لئلا يطلع نبي الله من السجن هذا هو الصواب أن الضمير في قوله: فأنساه الشيطان ذكر ربه عائد على الناجي كما قال مجاهد، ومحمد بن إسحاق، وغير واحد” والمقصود أن نبرئَ يوسف – عليه السلام – مما نسب إليه في هذه القصة من نسيان ذكر الله وابتغائه الفرجَ من عند غير الله وأن الله عاقبه على ذلك بطول الحبس، فهذا غير صحيح، وفي كتب التفسير في ذلك أخبارٌ منكرة وقصص واهية.

وكان تأخيرُ خروجِ يوسفَ من السجن خيرا له،

ففي كل تأخيرة خيرة كما يقال، فقد خرج يوسف من السجن وزيرا على خزائن الأرض، ولو كان خرج قبل ذلك بشفاعة ساقي الملك لخرج إنسانا عاديا، ولما أحدثَ في مصرَ بل والعالم  القديم آنذاك كلَ هذا التغيير

وقوله: (لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ) الْمُرَاد بِالدَّاعِي رَسُولُ الْمَلِك الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ سبْحَانه وَتَعَالَى عنه فقَالَ: {وقال الملك اِئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُول قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبّك فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَة اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} وهذه الكلمة (لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ) ثَنَاءٌ عَلَى يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام وَبَيَانٌ لِصَبْرِهِ وَتَأَنِّيه, فَلَمْ يَبادر إِلَى َمُفَارَقَة السَّجْن الطَّوِيل, بَلْ رَاسَلَ الْمَلِك طالبا منه بيانَ الحقيقة وكَشْفَ سببَ سجنه, ولِتَظْهَرَ بَرَاءَتُه أمام الناسِ كلِّ الناس, مما اتُهم به، وَلكي يَلْقَاهُ الملك وهو يعتقدُ بَرَاءَته مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ, وأن رايتَه بيضاء، وصفحتَه نقية، وهكذا ينبغي على الدعاة أن يحرصوا أشد الحرص على صفاء سيرتهم ونقاء صفحتهم، فإن الناس لن يستجيبوا لمن تلوثت سمعته، ولن يقبلوا دعوةَ من تلطخت صفحته، وحامت الشكوكُ والشبهاتُ حول دعوتهِ، ولقد بَيَّنَ نَبِيّنَا صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة (لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ) فَضِيلَة يُوسُف فِي هَذَا الصدد, وَقُوَّةَ نَفْسه وَكَمَالَ صَبْرهِ وَحُسْنَ نَظَره, وَقَالَ نبيُنا محمد صلى الله عليه وسلم عَنْ نَفْسه مَا قَالَ تَوَاضُعًا, وَإِظهارًا لِكَمَال يُوسُف صلى الله عليه وسلم, وإلا فلو كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مكان نبي الله يوسفَ لفعل أفضل مما فعل يوسف، فهو سيدُ الأنبياء والمرسلين،

وهكذا ينبغي أن يتواضع الدعاةُ بعضهم لبعض،

ولا يتعالى أحدهم على الآخر، ولا يطعنُ بعضُهم في بعض بغير حق، بل يثني بعضهم على بعض بحق. هذا وقد ابتُلي يوسف بالسجن ولبث فيه بضع سنين، وقد ظهر من يوسفَ للرفقائه في السجن أحسنُ السلوك ومكارمُ الأخلاق، وكان يوسف يعيشُ في مجتمع مشرك ودولة كافرة، وهكذا ينبغي أن يعيشَ المسلمُ في الدول غيرِ الإسلامية، إذا دخلها لزيارةٍ أو إقامةٍ طويلةٍ أو قصيرة، كما نبه على ذلك ابنُ تيمية رحمه الله في منهاج السنة، فعلى المسلم أن يكون مباركا على المسلمين وغيرِ المسلمين في كل مكان، يحفظ أمنهم ودماءهم وأموالهم، ولا يتعدى على أحد من الناس بل يتعايش مع الآخر بسلامٍ وإحسان، فإنه إذا كان في دولةٍ غير إسلامية فقد أقام فيهم بمقتضى تأشيرةٍ أو إقامةٍ أو جنسية، وهي بمثابة عهد الأمان في الفقه الإسلامي، وقد قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾ [النحل:91].

فلا غش ولا خيانة ولا غدر ولا تخريب ولا تقتيل،

وقد ثبت في صحيح البخاري حديثُ رسول الله “من قتل معاهَدًا لَم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عامًا ” وفي حديث حسن: أخرجه أبو داود والبيهقي  وغيرهما يقول عليه السلام:” ألا من ظلم معاهدًا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسٍ منه، فأنا حجيجه يوم القيامة ” هذا إذا كان المسلم في دولةٍ غير إسلامية، فكيف يكون الأمر إذا كان يعيش في دولة إسلامية؟!

وهكذا عاشَ يوسفُ عليه السلام في بلد كافر ومجتمعٍ مشرك،

داعياً إلى التوحيد بأخلاقه قبل أقواله، وأنقذ شعبَ مصرَ الكافرَ آنذاك من أزمة إقتصادية طاحنة، فيجبُ على المسلم أن يكون مباركا على أهلِ كلِّ بلدٍ يسافرُ إليه، ولا يجوز أن يكون شؤما على المسلمين وفتنةً لغير المسلمين يصدُّهم بأفعاله عن الدخول في الدين الحق!

فما بالُ أقوامٍ يسعَون سعيا مريبا في تشويه صورة الإسلام بعمليات التفجير والتخريب والتقتيل وقطع الرؤوس إلى درجة أن بعضَ صبيانِ داعش يتصورون وفي أيديهم رؤوس أهل العلم بعد تصفيتهم جسديا، فما أبشع تلك الصور المنتشرة في وسائل الإعلام ومواقع النت المختلفة حتى أصبح الإسلام في عيون الناس، رعبا مكتظا بأنواع العداوات لا يعرف إلا سفكَ الدماء وقتلَ الأبرياء.

وقد أمرنا القرآنُ بالإحسان إلى الآخر ،

فقال (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). الممتحنة: 8

وعلى كل حال فقد دخل يوسفُ السجنَ مظلوما وعاش بين قوم كافرين، فكان بركةً عليهم، ورحمةً لهم،  كما قال ربنا على لسان عيسى ( وجعلني مباركا أينما كنت)

 هذا وما دمنا نتحدثُ عن سجن يوسفَ فأتذكر أنه منذ أكثر من خمسِ عشرة سنة كتب أحد أمراء كبرى الجماعات يقول: إن من أعظم الأدلة والبراهين على كون جماعتنا على الحق كثرةَ الاعتقالات والسجون للرجالاتها وأعضائها،

فكتبتُ ردا عليه في بعض الصحفِ آنذاك أن العبرةَ ليست بكثرة الابتلاءات والاعتقالات والسجون، وإنما العبرةُ بأن يكون المسلم على مثل ما كان عليه النبيُّ وأصحابُه، فهذا هو الميزان الصحيح، وإلا فإن الابتلاءات والسجون قد تكون عقوبة من رب العالمين كما قال سبحانه: (( إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء))