رؤيا صاحبي يوسف في السجن

قد مثلنا للرؤيا الخاصة بالرائي وحده، برؤيا يوسفَ عليه السلام ثم رؤيا صاحبيه في السجن، ساقي ملكِ مصرَ وخبازهِ، اللذَين اتُهما بالتدبير لقتل الملك، فقد رأى الساقي في المنام أنه يعصر عنبًا,

ورأى الخباز: أنه يحمل فوق رأسهِ خبزًا تأكل الطيرُ منه,

وقد كان يوسف يعيشُ في مجتمع مشرك ودولة كافرة، كان يعيش بقيم عالية وأخلاق رفيعة، كما شهد صاحباه ( إنا نراك من المحسنين) فكان مباركا على أهل مصر، ولا أدل على ذلك من أنه أنقذهم من أزمة إقتصادية طاحنة، وهكذا ينبغي أن يعيشَ المسلمُ في الدول غيرِ الإسلامية،  إذا دخلها لزيارةٍ أو إقامةٍ، إذ يجب عليه أن يكون مباركا على أهل كل بلدٍ ينزلُ فيه، يحفظ أمنهم ودماءهم وأموالهم، ولا يتعدى على أحد منهم، فإنه قد أقام فيهم بمقتضى تأشيرةٍ أو إقامةٍ أو جنسية، وهي بمثابة عهد الأمان في الفقه الإسلامي!

كما نلاحظ أن يوسف عليه السلام لم يستغل شخصيته الفريدة،

ولا جماله الفذ، ولا الكريزما التي يستمتع بها ليوظف ذلك كله، في تكوين خلية أو تنظيم سري من داخل السجن،لقلب نظام الدولة، والسيطرة على مقاليد الحكم في البلاد، أليس هو أفضلَ من في مصر على الإطلاق، كما أنه لم يشنع على رموز الدولة المصرية، ولم يستغل ما حدَثَ حين راودته امرأةُ العزيزِ في بيتها عن نفسِهِ، أو حين قطعن أيديهن نسوةُ عليةِ القوم، لم يستغل ذلك يوسفُ لإثارة الناس ضد الطبقة الحاكمة، كلا فليس ذلك من أخلاق الدعاة إلى الله، ولا من منهج الأنبياء في الإصلاح والتغيير، وإنما وَظفَ يوسفُ ما وهبه ربه، لدعوة صاحبيه إلى توحيد الله عز وجل، وإفراده بالعبودية، فالتوحيد هو الأولُ في دعوة الأنبياء، بل ما أنزل الله كتبه ولا أرسل رسله إلا من أجل توحيده بالعبادة،

فالتوحيد أخطرُ قضية في تاريخ البشرية على الإطلاق،

فإن الأنبياء ما جاؤا لإثارة الناس وتأليبهم على حكامهم، فالواجب أن يبدأ الدعاةُ دائماً وأبدا بالدعوة لتوحيد الله عز وجل، كما بدأ يوسفُ والأنبياء قبله وبعده، كما قال تعالى لنبيه في آخر سورة يوسفَ يا محمد (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله ) لا إلى حزب ولا إلى جماعة ولا إلى شخص بعينه، فالدعوةُ يجب أن تكون إلى الله وحده.

كما أن الدعوةَ لدين الله عز وجل غيرُ مقيدةٍ بمكانٍ ولا زمانٍ، فها هو يوسفُ عليه السلام اتخذ من السجن الذي هو مكانٌ للعقوبة منبراً لنشر دعوة التوحيد!

بدأ يوسف مع صاحبيه في السجن من موضوعهما الذي يَشغل بالَهما، فيُطمئِنَهُما ابتداءً إلى أنه سيعبر لهم الرؤى (ذلكما مما علمني ربي) فينسب الفضلَ كله لله، وبذلك يكسب ثقتهما ويربطهما بالله منذُ اللحظة الأولى، ثم نراه لا يواجه صاحبيه بأنهما على انحراف خطير في العقيدة من الشرك بالله والكفر بالآخرة, كي لا يُحرِجَهما ولا ينفِرَهما، وهي كِياسةٌ وحكمة ولطافة (إني تركت ملة قوم ــ وما من شك أن صاحبيه من هؤلاء القوم ــ!لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة كافرون)
ثم ينتقل في حديثه بلطف بالغ وخطاب مقنع فيقول
يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهارُ
ما تعبدون من دون الله إلا أسماءً لا معاني وراءها, جعلتموها أنتم وآباؤكم أربابًا جهلا منكم وضلالا، ما أنزل اللهُ من حجةٍ أو برهانٍ على صحتها

وهكذا نستفيدُ من يوسفَ عليه السلام أن المعبرَ الناصحَ الأمينَ

هو الذي لا يكتفي بتعبير الرؤيا بل يدعو ويُرشدُ ويوجهُ، لا سيما وقد عرف من خلال الرؤيا طبيعةَ الرائي وسماتِه الشخصية، وها هو يوسفُ يُفسر لهما ما رأيا في المنام بعد دعوتهما للتوحيد.
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)

انظر إلى لطف يوسفَ في النداء يا صاحبي السجن الذي تكرر مرتين،

وانظر إلى لطفه في الخطاب، فلم يقل للخباز: أما أنت فتصلب وتأكل الطير من رأسك، إنه لا يواجهُ الناسَ بما يُفزعهم،

بل قال: وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ ، فقد أُمرنا أن نحسن الكلام مع الناسِ كلِ الناس ( وقولوا للناس حسنا)

وفي آيات الذكر الحكيم  حثُّ على: القول المعروف، والقول السديد، والقول البليغ، والقول الكريم، والقول الميسور، والقول اللين.

فمن الحكمة أن ننتقيَ الكلمات الحسنة، وأن نتحرى الأقوال اللينة؛ لما لها من أثر في تأليف القلوب وتطييب النفوس، ولا يخفى أن الكلمة الطيبة صدقة، فلا أفضلَ منها، سيما إذا اقترنت بابتسامةٍ جميلة، وهو أمر لا يكلف الناسَ شيئا كما قال الشاعر

بني إن البر شئ هين …  وجه طليق وكلام لين

لقد فسر يوسفُ رؤيا

من رأى أنه يعصر عنبا أنه ينجو من سجنه ويعود إلى خدمته للملك فيسقيه خمرا كما كان يسقيه, وفسر رؤيا الخباز بأنه سيُقتل ثم يصلب فتأكل الطير من رأسه، ولم يصدمه هذا التعبير السيئ، بل قال وأما الآخر فيصلب، لكن كيف عبر رؤياه “إني أراني أحمل فوق رأسي خبراً تأكل الطير منه” كيف عبرها بالموت صلبا ثم تأكلُ الطيرُ من رأسه، ذلك أن الطيرَ لا يأكلُ الإنسانَ الحيَ، وإنما يتناولُ الميت الذي لا حراك له إذا لم يكن عنده أحد, فمن هذا أخذ يوسفُ أنه سيموت، لكن من أين أخذ أن مِيتته ستكونُ بالصلب، ذلك أن العادة أن الميت يُدفن، ولا تتمكنُ الحيوانات أو الطيورُ من الأكل من جثته الهامدة، ففهم يوسفُ أن هذا سيقتل ولن يدفن سريعا، بل يبقى حتى تأكلَ الطيرُ منه، وهذا إنما يكونُ بعد قتلهِ وصلبه.

ولما علم يوسف أن هذه الرؤيا حق ,

ولا بد من وقوعها, دعاه إلى التوحيد لينقذه من النار إن مات على شركه بالله، ثم قال لهما : { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } فيوسفُ لا يعبر عن ظن، وإنما يعبرُ عن يقين، لأنه نبي رسول.

ثم قال يوسف للذي علم أنه ناجٍ من صاحبيه:

اذكرني عند سيِّدك الملك، وأخبره بأني مظلوم محبوس بلا ذنب, لكن الشيطانَ يكيدُ للأنبياء والصالحين، فقد أنسى الرجلَ أن يذكر للملك مظلمةَ يوسفَ,كما قال تعالى (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) فمكث يويسفُ بعد ذلك في السجن عدةَ سنوات.
وها هنا وقفات:

الوقفةُ الأولى:

أن تفسير الرؤيا يفيد الظن لا يفيد اليقين إذا فسرها غيرُ الأنبياء، وفي ذلك يقول قتادة تعليقا على قوله تعالى: (وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك) ، قال: وإنما عبارة الرؤيا بالظن، فيحقُّ الله ما يشاءُ ويُبْطِل ما يشاء.
فتعقبه الطبري شيخ المفسرين فقال: وهذا الذي قاله قتادة، من أن عبارةَ الرؤيا ظن، فإن ذلك كذلك من غير الأنبياء. فأما الأنبياء فغير جائز منها أن تخبرَ بخبرٍ عن أمرٍ أنه كائنٌ ثم لا يكون، أو أنه غيرُ كائنٍ ثم يكون”

وإذن فإن تعبير الرؤى كما يقول قتادة لا يفيد اليقين بل يفيد الظن، والظنُ درجةٌ من درجات العلم فوق الشك ودون اليقين، ومن ثم فليس ما يخبرُ به المعبرُ من خلال تفسيره للرؤيا سيقع حتما ولابد، كما إذا أخبر الرسول أنه سيقع كذا وسيكون كذا ، فشتان بين النبي وغيره ، بيد أن الأرجح أن ما يعبره المعبر سيقع، وذلك إذا عبرَ الرؤيا بمنهجية علمية، توافقُ الأصول ولا تخالفُ القواعد، ومما يدل على ذلك ما فسره شيخ أصحاب النبي الصديقُ بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال أبو بكر أأصبت أم أخطأت يا رسول الله، فقال: أصبتَ بعضا وأخطأت بعضا.

الوقفة الثانية:

أن يوسفَ قد سلك السبيل الشرعية لرفع الظلم الذي وقع عليه، لكنَ صاحبَه الساقيَ أنساه الشيطانُ أن يذكرَ للملك مظلمةَ يوسف، فبقي في السجن ثماني سنواتٍ أخرى أو أكثرَ أو أقل، فصبر واحتسب، ولم يسلك في السجن مسلكاً قد يُلام عليه أو ربما يُودي بحياته كما يفعلُ بعض الذين لا يعلمون ولا يصبرون على أقدار الله المؤلمة، لكن هذا التأخيرَ في الخروج من السجن، كان خيرا ليوسف، فبالتأخيرِ خرجَ من السجن وزيرا، ولو خرج قبل ذلك بشفاعة صاحبه ساقي الملك، لخرج من السجن بمنة من الملك أو الساقي، وما حصل له التمكين الذي حصل له، فإذا تأخر عنك أيها المبتلى فَرَجُ ربك، فاعلم أن تأخره عنك هو الأفضلُ لك، وأن الله ما أخرَ تفريجه لكربتك ليعذبك، بل ليزيدك خيرا وفضلا.

وعلى كل حال، فإن الله لا ينسى أولياءه، ولا المحسنين من عباده،

فيسخرُ لهم الأسباب التي تنجيهم من كرباتهم، وترفعُ من أقدارهم، وتَقلبُ المحنة والمصيبة إلى منحة وهدية، فقد رأى ملكُ مصر رؤيا عامة تخص أهلَ مصرَ كلهم جميعا، فإنه رأى سبعَ بقراتٍ سمانٍ يأكلهن سبعُ بقراتٍ عجافٍ، كما رأى سبعَ سنبلاتٍ خضرٍ يأكلهن سبعُ سنبلاتٍ يابساتٍ ضعيفات فهالتْه الرؤيا, وجمعَ لها كلَ من يظنُ فيه المعرفةَ، فلم يكن عند أحد منهم علمٌ بتعبيرها , وقالوا : { أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } [ سورة يوسف : الآية 44 ]

وهنا يتذكر صاحب يوسفَ الذي خرجَ من السجن يتذكرُ يوسف وما هو عليه من العلم العظيم بالتعبير, فطلب من الملك أن يرسله إلى يوسف , فلما جاءه قال له : { يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبعِ سنبلات خضر وأخر يابسات } فإن الملك والناسَ معه أرسلوني إليك لتفسرها لهم وهم في انتظار ذلك متشوقين إليه غاية التشوق , ولهذا قال : { لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون } [ سورة يوسف : الآية 46 ]

نلاحظُ هاهنا ملاحظتين الأولى

أن صاحبَ يوسفَ قد ذكر له الرؤيا بحروفها كما ذكرها الملكُ، وأعادها القرآنُ في إشارةٍ بالغة إلى أن أيَ زيادةٍ أو نقص، أو تقديمٍ أو تأخير، لن يجعلَ تفسير الرؤيا أقربَ إلى الصحة، ومن ثم فإننا نحرصُ دائما أن نسمعَ الرؤيا من الرائي نفسِه، إلا إذا نُقلت بحذافيرها وحروفها، وعرف الناقلُ أحوالَ الرائي تفصيلاً

كما نلاحظُ ثانياً

أن يوسف فسر الرؤيا في الحال، وترفعَ عن أن يكونَ كأكثرِ الناس، يأخذُ في اللومِ والعتابِ لصاحبه، وكيف نسيه طيلةَ ثماني سنين أو أكثر، وهو قريب من الملك يسقيه الخمر كل يوم، فلنتعلم من يوسفَ، أن نترك كثرةَ اللوم والعتاب التي تؤدي إلى فساد العلاقات وقتل المودات، كما أن يوسفَ لم ينتقم لنفسه ولم يقل مثلا: سجنتموني ظلما والآن احتجتم إلي فلن أقدم لكم ما ينفعكم، لا لا لا فليس هذا من شيم الأنبياء، فها هو يفسرُ الرؤيا ويزيدُهم مع التفسير خُطة إقتصادية بارعة, أنقذتْ هذا الشعب المصري المشركَ آنذاك، وحكومته التي ظلمته من أزمة إقتصادية طاحنة.