أَول ما بدِئ به رسول الله الرؤيا الصادقة

حديثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في أول كتاب التعبير من صحيح البخاري،

أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ

قول عائشة « أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ» تقريرٌ علمي صريح من عائشةَ بأن رؤيا النبي – صلى الله عليه وسلم – في المنام قسم من أقسام الوحي وهي سبعةٌ معروفة،

لكن السؤال الذي ينقدح في النفس بقوة،

لماذا بُدئ – صلى الله عليه وسلم – بالوحي في المنام قبل مجيئ الوحي في اليقظة أو في الواقع،

والجواب:

أن ذلك رحمةٌ من ربي ليكون تمهيداً وتوطئةً لمجيىء الملكِ المختص بالوحي وهو جبريل إليه في اليقظة، لئلا يأتيه بصريح النبوة فجأةً، فهذا لا تتحمله القوى البشرية، فإن الوحي والرسالة من الثقل بمكان كما قال تعالى: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا } أي عظيمَ المنزلة، ثقيلَ الوطأة، كبيرَ الشأن، حتى إنه صلى الله عليه وسلم لما نُبئ ببعض آيات الوحي، فزع أشد الفزع، ورجع إلى بيته يرجف فؤاده، فدخل على خديجةَ رضي الله عنها ، كما رواه الشيخان فقال: “زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجةَ: لقد خشيت على نفسي

وها هي زوجه وحِبُه أمُ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها، هاهي تصفُ الشدةَ والثقل الذي كان يلاقيه عليه السلام عند نزول الوحي،

فتقول فيما أخرجه البخاري ومسلم عنها: ولقد رأيته ينزلُ عليه الوحي في اليوم الشديدِ البرد فيُفصمُ عنه وإن جبينه ليتفصدُ عرقا”. أي يرشحُ جبينه ويسيل عرقا من شدة الوحي

إذن فمن رحمة الله عز وجل أنه كان يمهد لنبيه عليه السلام بالرؤيا الصادقة في النوم، ومن أواخر هذه الرؤى التي كان يراها في نومه تلك الفترةَ المبكرةَ ما ذكره محمدُ بنُ إسحاق أن: جبريل جاءه في منامه، بديباجٍ فيه كتاب، فقال: اقرأ. فقال عليه السلام: ما أقرأ؟ فضمه، حتى ظن أنه الموت، ثم تركه، فكانت هذه الرؤيا كالتمهيد لما يأتي بعده من الوحي صراحة في الواقع واليقظة في غار حراء، وكان ذلك في رمضان الموافق لشهر أغسطس سنة 610 ميلادية، وكان عمره إذ ذاك أربعين سنة قمرية

على أن هذا التمهيد للأحداث العظيمة نلحظه جميعا في حياتنا، فقبل أن يموتَ فلانٌ من الأحبةِ مثلا، نرى في منامنا ما يدل على موته، تمهيدا لنا ورحمة بنا، فالموت مصبية عظيمة كما قال الشاعر

قالوا يا هذا صف الموت وشدته .. فقلت وامتد مني عندها الصوت
يكفيكمُ أن الناس لو وصفوا ..      أمرا يروعهم قالوا هو الموت

أتذكر قبل أن تموتَ والدتي رحمها الله رأيتُها في المنام، وهي تمشي متعبةً مرهقة، وكأني قلت لها إلى أين يا أمي، فقالت: لقد تعبتُ وسأذهب لأمي لكي أرتاح، وأمُها توفيت قبلها بسنوات.

خلاصةُ الكلامِ إذن كان الله سبحانه يمهدُ لنبيه بالوحي والرسالة بالرؤيا الصادقة،

على أن التمهيدَ للوحي لم يكن بالرؤيا الصالحة وحدها،

بل كان بأمور أخرى، فكان عليه السلام يرى بعينه انبثاقَ النورِ ويسمعُ بأذنه الصوت، فكان إذا مر ببعض الحجر والشجر سمعها تقول: السلام عليك يا رسولَ الله
كما أخرج مسلم عنه صلّى الله عليه وسلّم،قال: إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم عليّ، قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن
هذا قد ذَكَرَ بَعْضُ العلماء أَنَّ مُدَّةَ الْوَحْيِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّؤْيَا قَبْلَ الْوَحْيِ إلَيْهِ يقظةً كانت سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَجَعَلَ، هَذَا تفسيرا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } لِأَنَّ مُدَّةَ حَيَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، والستةُ أشهر هِيَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا.

وقول عائشة رضى الله عنها أوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ
فقولها ( الرؤيا الصادقة ) جاء فى رواية الرؤيا الصالحة وهما بمعنى واحد، فالحديث يفسر بعضه بعضا، كما أن القرآن يفسر بعضه بعضا.

وقولها ( فكان لا يرى رؤيا الا جاءت مثل فلق الصبح ) ففلق الصبح : ضياؤه، وانما يقال هذا فى الشيء الواضح البين، والمعنى أنّ رؤاه عليه السلام كانت تأتي واضحةً بيّنة، وتقع في الواقع كما رآها تماما.