براءة النبلاء من تهمة الإرجاء

براءة النبلاء من تهمة الإرجاء

لقد نشأت ناشئة استعجم عليها فهم حقيقة الإيمان عند السلف وأهل السنة وما عليه أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والمرجئة، فطعنوا مخالفيهم ممن يرى عدم كفر تارك الصلاة كسلاً وتَهَاونًا، أو يعتقد غلط إطلاق الكفر على من لَمْ يحكم بما أنزل الله من غير تفصيل، وأمعنوا في إساءتِهم؛ فاتَّهَموا أشياخ المسلمين من أمثال الشيخ الفقيه المحدث العلامة الإمام محمد ناصر الدين الألباني بالإرجاء المشين، مما يبرهن على رعونة في الرأي، وخفة في الأدب، ونقص في الورع([1]).

وإذَا أَتَتْك مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ فَهِي الشَّهَادَةُ لِي بِأَنِّي كَامِلُ

فما الإرجاء؟ وما حدوده؟

وما أصناف المرجئة؟ وما هي فرقهم؟

وما اختلافهم في الإيْمان وحقيقته؟

حتى يُدرك هؤلاء أن نسبة الشيخ -ومن حذا حذوه- إلى الإرجاء فرية بلا مرية، وبلية أي بلية، وليحذروا من مثل هذا التجاسر والتطاول على شيوخ الأمة وعلمائها.

وَمَا جَهلَتْ أَيَادِيك البَوَادِي وَلَكِنْ رُبَّمَا خَفِيَ الصَّوَاب

فأهل الحديث والسنة الذين نبزوا بالإرجاء، واتُّهموا بأنَّهُم مرجئة، فمن أي فرق المرجئة هم؟!.

نبئوني بعلم إن كنتم صادقين.

ونسأل هؤلاء: هل جماهير أهل السنة مرجئة -في نظركم- فهم جميعًا لا يكفرون تارك الصلاة -بل تارك المباني الأربعة كلها- كسلاً وتَهَاونًا، وهو القول الصحيح في مذهب الإمام أحمد كما نقله غير واحد؟!.

وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحًا وَآفَتُـهُ مِنَ الفَهْـمِ السَّقِيـمِ

وبالجملة فإن المرجئة -كما يقول شيخ الإسلام- ثلاثة أصناف:

1- “الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب.

ثم من هؤلاء يدخل فيه أعمال القلوب، وهم أكثر فرق المرجئة.

ومنهم من لا يدخلها في الإيمان؛ كجهم ومن اتبعه كالصاحي.

2- والقول الثاني: من يقول هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية.

3- والثالث: تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم”([2]).

“وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئًا من الإيمان، إذ لو ذهب شيء منه لَمْ يبق منه شيء فيكون شيئًا واحدًا، يستوي فيه البر والفاجر”([3]).

وعامتهم يذهبون إلى أنه: لا يزيد ولا ينقص، ولا يتبعض، ولا يتفاضل أهله فيه، بل إيْمان الجميع سواء، وهم -كذلك- لا يستثنون في الإيمان، ويقولون: إذا ذهب بعضه ذهب كله…

فأهل الحديث والسنة ومنهم العلامة الألباني -رحمه الله- ومن حذا حذوه، يذهبون إلى تغليط هؤلاء جميعًا، ويرون الحق ضد ما ذهب إليه هؤلاء فيقولون: “الإيْمان اعتقاد وقول وعمل، يزيد وينقص، ويتبعض، ويتفاضل أهله فيه، ويستثنون فيه، ويرون أنه أصل وفرع…

وقد قال الإمام البربَهَاري : “من قال: الإيْمان قول وعمل، يزيد وينقص، فقد خرج من الإرجاء كله، أوله وآخره”([4]). ومن قبله سئل أحمد -رحمه الله- عمن قال: “الإيْمان يزيد وينقص؟ فقال: هذا بريء من الإرجاء”([5]).

فمن وهم في شيء من ذلك، أو فهم غير ما هنالك: فإنه يُذكَّرُ بما رواه الإمام إسحاق بن راهويه -رحمه الله- عن شيبان بن فروخ، قال:

“قلت لعبد الله بن المبارك: ما تقول فيمن يزني ويشرب الخمر، ونحو هذا: أمؤمن هو؟

قال ابن المبارك: لا أخرجه من الإيمان.

فقال شيبان: على كبر السن صرت مرجئًا؟!

فقال ابن المبارك: يا أبا عبد الله، إن المرجئة لا تقبلني ، أنا أقول: الإيمان يزيد، والمرجئة لا تقول ذلك”([6]).

وقال حافظ أهل المغرب أبو عمر بن عبد البر: “هذا قول -يعني: القول بعدم كفر تارك الصلاة- قد قال به جماعة من الأئمة ممن يقول: الإيمان قول وعمل، وقالت به المرجئة أيضًا إلا أن المرجئة تقول: المؤمن المقر مستكمل الإيمان، وقد ذكرنا اختلاف أئمة أهل السنة والجماعة في تارك الصلاة، فأما أهل البدع، فإن المرجئة قالت: تارك الصلاة مؤمن مستكمل الإيمان، إذا كان مقرًّا غير جاحد، ولا مستكبر”([7]). بل قالوا: إن إيْمانه كإيْمان جبريل وميكال! أما السلفيون أهل الحديث، فقالوا: إنه ناقص الإيمان في خطر مشيئة الرحمن، إن شاء عذبه فأورده النيران، وإن شاء عفا عنه ونعمه بالجنان.

فأين هؤلاء من أولئك؟!.

وما انتفاع أخي الدنيا بناظــره إذا استوت عنده الأنوار والظلم

على أن هذه الفرية قديمة، فقد ذكر القاضي الشيخ العلامة أبو الفضل السكسكي الحنبلي (ت 683) في كتابه “البرهان”([8]): “أن طائفة من أهل البدع تسمى بالمنصورية، وهم أصحاب عبد الله بن زيد، يتهمون أهل السنة بأنَّهُم مرجئة لقولها: إن تارك الصلاة إذا لَمْ يكن جاحدًا لوجوبِهَا مسلم على الصحيح من المذهب -مذهب أحمد-، ويقولون: هذا يؤدي إلى أن الإيمان عندهم قول بلا عمل”.

فالعمل عند المرجئة ليس من الإيمان ألبتة؛ إذ الإيمان عندهم شيء واحد، لا يزيد ولا ينقص، يستوي فيه البر والفاجر، ولا يذهب شيء منه بفعل الكبائر، وترك الواجبات، فتارك الأعمال عندهم مؤمن مستكمل الإيمان، إيمانه وإيمان المرسلين سيان، بل هو من أولياء الرحمن، والحق أن هذا الاعتقاد يؤدي إلى ظهور الفسق والمعاصي، بأن يقول: أنا مؤمن مسلم حقًّا كامل الإيمان والإسلام ولي من أولياء الله، فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي، وبِهَذا المعنى قالت المرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، وهذا باطل قطعًا” كما يقول ابن أبي العز([9])، ولذلك ضللهم السلف، وحذروا منهم أشد التحذير، وبالغوا في ذلك ما لَمْ يبالغوا مثله في التحذير من الفرق الأخرى؛ وذلك لشدة ضررهم وفتنتهم للمسلمين.

يقول إبراهيم النخعي: “لأنا لفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة” ([10]).

وقال الزهري: “ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على الملة من هذه”([11]).

وقال سعيد بن جبير: “المرجئة يهود القبلة”([12]).

ونحوه من قول أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين: “ما ليل بليل، ولا نَهَار بنهار أشبه من المرجئة باليهود”([13]).


(1) وقد انتقد الشيخ الألباني في “الذب الأحمد عن مسند الإمام أحمد” (ص 33) ما ذهب إليه ابن نجيم الحنفي من أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن العمل ليس من الإيمان، ثم قال: هذا ما كنت كتبته منذ أكثر من عشرين عامًا مقررًا مذهب السلف، وعقيدة أهل السنة -ولله الحمد- في مسائل الإيمان، ثم يأتي -اليوم- بعض الجهلة الأغمار، والناشئة الصغار فيرموننا بالإرجاء!! فإلى الله المشتكى من سوء ما هم عليه من جهالة وضلالة وغثاء…
(1) الإيمان: (184).
(2) المصدر السابق: (210).
(1) شرح السنة: (132).
(2) السنة للخلال: (581).
(3) مسند إسحاق: (3/670).
(1) التمهيد: (4/242).
(2) انظر: ص (96).
(3) شرح العقيدة الطحاوية: (2/470).
(1) السنة للخلال: (951)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة: (5/988).
(2) الشريعة للآجري: (143).
(3) السنة لعبد الله بن أحمد: (86)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة: (5/989).
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة: (5/9911).