التأصيل الهام لمسألة التشريع العام

التأصيل الهام لمسألة التشريع العام

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعـد:

فلما كان كلام أهل العلم -مهما بلغوا- ليس معصومًا من الغلط والزلل، بل قابلاً للرد والمناقشة، بات لزامًا علي أن أبين وجهة نظري فيما فهمه الكثيرون من بيان اللجنة الدائمة رقم: (21154) وتاريخ (24/10/1420هـ) من القول بتكفير من حكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام بإطلاق، وهذا أمر من الخطورة بمكان لما يترتب عليه من فتن ودماء، ونكبات وأرزاء، نسأل الله السلامة والعافية من كل بلاء.

هذا وقد كنت كتبت للّجنة الموقرة ردًّا مفصلاً على البيان المذكور آنفًا، ووصل إليهم بتاريخ 13/11/1420هـ ورقم: (1401/1/د) وحفظ ذلك الرد، ولَمْ يُرد عليه بحرف!!.

ولابد أولاً من تحرير مقصود اللجنة بمصطلح “التشريع العام“، وهو لا يخرج عن معنيين اثنين:

أولهما: أن يكون تشريع الدولة -كله أجمع- مخالفًا لما أنزل الله، وهذا أمر يعوذه الدقة، بل هو إلى الخيال أقرب، فما من حاكم ينتسب إلى الإسلام -في دنيا الناس اليوم- إلا وهو يطبق منه قدرًا قل أو كثر.

ويظهر هذا أكثر ما يظهر في إنشاء الوزارات والهيئات التي تعنى بكثير من الشئون الإسلامية من تعمير المساجد، وإقامة الصلوات، وتعيين المؤذنين والأئمة، وتنظيم الوعظ والخطابة والدعوة، وغير ذلك، كما يتجلى أيضًا في إنشاء لجان الإفتاء، والمؤسسات العلمية الدينية التي تُعنى بتدريس العلوم الشرعية، هذا بالإضافة إلى القضاء في أمور النكاح، والطلاق، والمواريث، والأوقاف بأحكام الشريعة الغراء في الأعم الأغلب.

ويبعد عن اللجنة أن تقصد ذلك المعنى لبُعده عن الواقع([1])، ومن ثم فلا يبقى -والله أعلم- إلا المعنى الثاني، وهو:

ما تردده كتب تكفير الحكام بإطلاق، ككتاب “الرد على العنبري” إذ يقول (ص: 28- ط1): “وأما التشريع العام فهو تبديل حكم الله، ولو في حد من الحدود”. وكرسالة “إن الله هو الحكم” (ص: 119-120) إذ يقول مسودها: “قد يظن بعض الناس أن حكم الكفر على الحاكم لا يكون إلا بأن يترك الحاكم الحكم بكل ما جاء في الشريعة، فإذا حكم ببعض ما أنزل الله دل ذلك على إيْمانه، وهذا الفهم فهم مغلوط، وقد رد القرآن على أصحابه بأوضح عبارة، عندما قال: )أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(. وعندما قال: )إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً -150, أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا(.

ثم قال: فليس شرطًا أن يقع الترك أو التبديل أو التغيير في جميع الأحكام الشرعية حتى يستحق الفاعلون لذلك اسم الكفر، بل متى تم ترك أو تبديل أو تغيير حكم واحد من الأحكام التي شرعها الله أو رسوله، والاستعاضة عنه بما أحدثوه من الأحكام كان الكفر -والعياذ بالله-.

فإن كانت اللجنة ترى كفر من حكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام -على هذا المعنى- بدون نظر إلى الاستحلال؛ فالواجب أن تبرأ إلى الله من ذلك؛ إذ يلزم منه دواه وبليات، على سبيل المثال:

1- تكفير جميع الحكام بلا استثناء، ويعقب ذلك وقوع الصدام والمواجهة والفتن المدلهمات بين الشعوب والحكومات.

2- تكفير كثرة من الفقهاء الذين يجتهدون بِهَوى؛ فيشرعون ما يخالف أحكام الله تعالى، لاسيما وكثير منهم يعتمد الاستحسان، وقد اشتهر عن الشافعي قوله: “من استحسن فقد شرع” بل وصفه كما في “الرسالة”    (507) بقوله:”إنما الاستحسان تلذذ“.

3- تكفير المقلدة للمذاهب الفقهية، ذلك أن المقلد لا يحكم بحكم الكتاب والسنة،إنما يحكم برأي العالم الذي قلده، يوضح ذلك العلامة صديق حسن خان في “فتح البيان” (3/31) فيقول:

“هذه الآية: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ). وإن نزلت في اليهود، لكنها ليست مختصة بِهِم؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكلمة “من” وقعت في معرض الشرط؛ فتكون للعموم، فهذه الآية الكريمة متناولة لكل من لَمْ يحكم بما أنزل الله -وهو الكتاب والسنة- والمقلد لا يدعي أنه حكم بما أنزل الله، بل يقر أنه حكم بقول العالم الفلاني، وهو لا يدري!! هل ذلك الحكم الذي حكم به: هو من محض رأيه، أم من المسائل التي استدل عليها بالدليل، ثم لا يدري أهو أصاب في الاستدلال أم أخطأ؟ وهل أخذ بالدليل القوي أم الضعيف؟!”.

4- تكفير المبتدعة بإطلاق، فقد شرعوا ما لَمْ يأذن به الله، واستدركوا عليه بلسان حالهم أو مقالهم، ذلك أن المبتدع كما يقول الشاطبي في الاعتصام (1/50): “قد نزل نفسه مَنْزلة المضاهي للشارع… وصير نفسه نظيرًا ومضاهيًا حيث شرع مع الشارع”.

وجميع هذا باطل غاية البطلان، وبلية أي بلية!.

مهما يكن من أمر فليس هناك دليل على تكفير المشرعين بإطلاق ودون تفصيل، اللهم إلا قول كثير من المكفرين: “التشريع حق خالص لله وحده لا شريك له، من نازعه في شيء منه فهو مشرك”. كما قال صاحب كتاب “حكم الله وما ينافيه” (ص: 37-38) وغيره.

فالحق -والحق أقول إن شاء الله-: إنه لا اختلاف في أن التشريع والحكم لا يكون إلا لله تعالى، بيد أن مخالف ذلك من غير استحلال ليس بكافر.

فإن منازعة الله سبحانه فيما اختص به وانفرد به عن عباده ليس كله كفرًا بإطلاق، بل هو على قسمين:

الأول: ما يكون كفرًا وشركًا مخرجًا من الملة بإطلاق ودون تفصيل: كادعاء استحقاق العبادة، أو القدرة على الإحياء والإماتة، أو ادعاء علم الغيب، ونحو ذلك.

الثاني: ما يكون فيه التفصيل، أو التفريق بين المستحل وغير المستحل، فالخلق والتصوير من خصائصه سبحانه، ومنازعته في هذه الصفة من غير استحلال ليس بكفر باتفاق أهل السنة، وقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة)).

قال القرطبي في “المفهم” (5/432): “وقد دل هذا الحديث على أن الذم والوعيد إنما علق من حيث تشبهوا بالله تعالى في خلقه، وتعاطوا مشاركته فيما انفرد الله تعالى به من الخلق والاختراع”.

ومما يؤكد أن المصورين ينازعون الله ما انفرد به من صفات وحقوق، حديث عائشة -المتفق على صحته- قالت: ((دخل عليّ رسول الله ﷺ، وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكه، وتلون وجهه وقال: يا عائشة، أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)).

ومع أن المصورين ينازعون الله ما انفرد به، فإن أهل السنة لَمْ يكفروا منهم إلا من استحل أو قصد العبادة والمضاهاة، أما من لَمْ يستحل ولَمْ يقصد العبادة والمضاهاة فهو فاسق مرتكب لكبيرة، وليس بكافر.

يقول النووي -رحمه الله- في شرحه لمسلم (13/81): “تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بِهَذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال؛ لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى”.

وكذلك العز والعظمة والكبرياء من أوصاف الله تعالى الخاصة به التي لا تنبغي لغيره، فيما يقول القرطبي في “المفهم” (6/607). كما في حديث أبي سعيد وأبي هريرة في صحيح مسلم قالا: قال رسول الله ﷺ: ((العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته)).

وأهل السنة كافة لا يكفرون من يستعظم نفسه، ويحتقر غيره ويزدريه تكفيرًا مطلقًا بغير تفصيل…

صفوة القول: إن ثمة أوصافًا إلهية انفرد الله بِهَا دون خلقه، كالكبرياء والعظمة والخلق والتصوير، وأهل السنة لَمْ يكفروا المنازع له فيها بإطلاق، وإنما سلكوا منهج التفصيل كما مر آنفًا، فكذلك التشريع والحكم لا يكفر من نازع الله فيهما إلا من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، أو استحل تشريع ما لَمْ يأذن به الله.

أما التكفير مطلقًا -بغير تفصيل- فهو قول الخوارج الحرورية الذين اشتهر عنهم تكفير من حكم بغير ما أنزل الله أو شرع ما لَمْ يأذن به الله من غير جحود.

قال الجصاص في أحكام القرآن” (2/534): “وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما الله أنزل من غير جحود.

وقال أبو المظفر السمعاني في تفسيره (2/42): “واعلم أن الخوارج يستدلون بِهَذه الآية، ويقولون: من لَمْ يحكم بما أنزل الله فهو كافر. وأهل السنة قالوا: لا يكفر بترك الحكم”. يعني: من غير جحود”.

وقال مثل ذلك أبو بكر الآجري، وأبو عمر بن عبد البر، وأبو العباس القرطبي،وأبو حيان، وأبو يعلى الحنبلي وغيرهم.

فالمرجو من اللجنة الموقرة أن تتأمل هذه المسألة حق تأملها، حتى لا تكون فتنة،ويكون الدين لله. والله الهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.


(1) فإن كانت تقصده فقد جانبها الصواب أيضًا، ففي معالم التَّنْزيل للبغوي (3/61): “سئل عبد العزيز بن يحيى الكناني عن هذه الآيات، فقال: إنَّهَا تقع على جميع ما أنزل الله، لا على بعضه، فكل من لَمْ يحكم بما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق، فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك، ثم لَمْ يحكم بجميع ما أنزل الله من الشرائع لَمْ يستوجب حكم هذه الآيات”. وهذا كلام قوي متين.