الضعفاء

لسنا نتحدث عن طبقة دون، أو عن ناس لا يُأبه لهم.

حين نتحدث عن الضعفاء والمستضعفين في الأرض، لأسباب مادية أو بدنية، ممن لا مال لهم ولا جاه ولا سند ولا ظهر و لا عشيرة ولا صحة، فلسنا نتحدث عن طبقةٍ دون، أو عن ناس لا يُأْبه لهم.
فالجميع سواء في مجتمعات الإسلام النظيفة، فالفقر أو الإعاقةُ، لا تقدح في قيمة الإنسان أبداً، وإنما الذي يقدحُ في قيمة الإنسان أن يعصي ربه الرحمن ، وأن يسعى في الأرض بالفساد، فالإنسان يُقيَّم في الإسلام، بعلمه وعمله، لا بماله ولا بجاهه .

هؤلاء الضعفاء لهم مكانة كبيرة، ومنزلة رفيعة في مجتمعات الإيمان الراقية

بل إن هؤلاء الضعفاء لهم مكانةٌ كبيرة، ومنزلةٌ رفيعة في مجتمعات الإيمان الراقية، ولهم حقوقٌ يجب أن تُؤدى إليهم.
فهؤلاء الضعفاءُ من الفقراء والمساكين، هُم أول مَن ينقادُ إلى الحقِّ، وهم أول مَن استجاب لدعوة الرسُل.
فقد سألَ هرقلُ عظيمُ الروم أبا سفيان وكان على سفر في الشام، كما في الحديث المتفق عليه،  وكان لا يزال على الكفر حينذاك، سأله هرقل: هل أشرافُ الناس يتبعونَ محمداً أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباعُ الرسل.
هؤلاء الضعفاءُ، همُ الذين أمر الله نبيه ﷺ أن يجالسهم: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.
وفي سبب نزول هذه الآية، روى مُسْلِم فِي صَحِيحه، عنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص قَالَ:
كُنَّا مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ نَفَر، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ : اُطْرُدْ هَؤُلاءِ، لا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُود وَرَجُل مِنْ هُذَيْل وَبِلال، وَرَجُلانِ نَسِيت اِسْمَيْهِمَا، فَوَقَعَ فِي نَفْس رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَقَع، فَحَدَّثَ نَفْسَه، فقط حدث نفسه لمصلحة الدعوة، فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
وورد في تفسير الآية أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طردت هؤلاء جالسناك وحادثناك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنا بطارد المؤمنين)): فقال المشركون: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا، تَعْرِفُ لَنَا بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا، فَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَأْتِيكَ، فَنَسْتَحْيِي أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَذِهِ الْأَعْبُدِ، فَإِذَا نَحْنُ جِئْنَاكَ، فَأَقِمْهُمْ عَنْكَ، فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا، فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ، قَالَ: «نَعَمْ» طمعاً في إيمانهم، فَنَزَلَ جِبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }

الستة الضعفاء الذين أشار الحديث إلى أسماءِ بعضهم

هؤلاء الستة الضعفاء الذين أشار الحديثُ إلى أسماءِ بعضهم: سعد، وابن مسعود، وبلال، وصهيب، وعمار، والمقداد، رضي الله عنهم أجمعين، هؤلاء الستة هم أسيادُ المسلمين، مما يؤكد أن الإنسانَ يُقيَّم في الإسلام، بعلمه وعمله لا بماله ولا بجاهه
وهؤلاء الضعفاء هم أكثرُ أهل الجنة، كما في الحديث المتفق عليه: ((قمت على باب الجنة فإذا عامّةُ مَن دخلها المساكين))
وفي الحديث المُتَّفَق عَلَيْهِ أيضا ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعّف لو أقسم على اللَّه لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلّ جوّاظ مستكبر))
هؤلاء الضعفاء، لا تنتصر الأمة إلا بهم، ولا ينزل الخيرُ والبركة إلا بتطيب خواطرهم، وقضاءِ حوائجهم، ففي صحيح البخاري «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ».
وبيَّن النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن شر الطعام، طعامُ الوليمة التي لا يُدعى إليها الفقراء، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «بِئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُدْعَى إِلَيهِ الْأَغْنِيَاءُ، وَيُتْرَكُ المَسَاكِينُ»
هؤلاء الضعفاء، هم من يستجيب الله دعاءهم، كما ثبت في صحيح مسلم قال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((ربّ أشعثٍ، مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على اللَّه لأبرّه))

إذا عرفت واحداً من هؤلاء الضعفاء، فقد وقعت على كنز عظيم

عزيزي القارئ: إذا عرفتَ واحداً من هؤلاء الضعفاء، فقد وقعت على كنز عظيم، فتوسل إلى الله بدعائه سيما في أوقات الشدائد والأزمات.
ذلك أن الضعفاءَ أشدّ إخلاصًا، فقلوبهم سليمة، لتعلقها بالله وحده، وخُلوِّها من التعلق بالدنيا، وبُعدِها عن الكبرياء والتعاظم والغرور.
فالضعفاءُ لا يعتَدُّون بمال ولا جاه ولا قوة، وإنما يعتدون بالله وحده، فهم خيرٌ من كثيرين ممن يُشار إليهم بالبنان.
برهانُ ذلك ما ثبت في صحيح البخاري أيضا:
مر رجل على رسول الله  فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيك في هذا؟))
فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريّ، إن خطب أن يُنكح، وإن شَفع أن يُشفَّع،
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مرّ رجل آخر،
 فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيك في هذا؟))
 فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين
 هذا حري إن خطب أن لا يُنكح، وإن شفع أن لا يشفَّع، وإن قال أن لا يُسمَع لقوله!
 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا خيرٌ من ملء الأرض مثلِ هذا)) .
هؤلاء الضعفاء، تمنى نبيُّ الله أن يكون منهم، وأن يُحشرَ معهم، فروى ابنُ ماجه وغيرهُ، عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : أَحِبُّوا الْمَسَاكِينَ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ ، يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا ، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ.
وفي حديثِ اختصامِ الملأ الأعلى، قال الله لنبيه المجتبى: يَا مُحَمَّدُ، إِذَا صَلَّيْتَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ المَسَاكِينِ، وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ

هذه منزلة الضعفاء في الإسلام

هذه منزلةُ الضعفاء في الإسلام، وفي عيون أهلِ الإيمان والتقوى، بها يطمئنُ الضعيف، وتهدأ نفسُه، ويسكن فؤاده، ويعيش في عزةٍ وكرامة وسعادة.
إن أحوجَ الناس للرحمة والإحسان والعطف والحنان الضعفاءُ الذين لا حول لهم ولا طَول، مِثلُ اليتيم الذي فقد الأب، والأرملة التي فقدت الزوج، والمسكين الذي فقد المال، وابنُ السبيل الذي لا سند له ولا مُعين، والمرضى والعجزة وكبارُ السن والخدمُ والأُجَراء والعمالُ البسطاء.
ولقد استفاضت النصوصُ من الكتاب والسنة في الحث على الإحسان إلى هؤلاء الضعفاء، فهم أحوجُ الناس للرحمة والإحسان والعطف والحنان، وَوَعَدَ على ذلك ربنا بالثواب الجزيل
قال تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
وقال تعالى: ﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾و أخرج أبو داود والترمذي، عن عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((الراحمون يرْحمهم الرحمن، ارْحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء))؛
وأخرج الترمذي عن جرير بن عبدالله – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن لا يرحم الناس لا يرحمه الله))؛.
وفي الصحيحين عن أنس أيضا قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (لساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله))، قال أنس: وأحسبه قال: ((وكالقائم لا يفتُر، وكالصائم لا يُفطر)).

كن كنبيك صلى الله عليه وسلم

عزيزي المشاهد: كن كنبيك صلى الله عليه وسلم، كان يتفَقَّد الضعفاء ويجالسهم، ويدنيهم إليه، ويحادثهم، ويسأل عنهم، ويلاطفهم ، ويؤانسهم، ويعود مَرْضَاهم، ويشهد جنائزهم، ويصلهم بما يحتاجون إليه من الأموال والنفقات، كما في قصة المرأة السوداء التي كانت تنظف المسجد فماتت، فأتى قبرها وصلى عليها.
ذُكر في ترجمة الإمام المبجل أحمد بن حنبل أن الضعفاءَ كانوا في مجلسهِ كالأمراء، يشعرون بالعزة والمنزلةِ العالية.
عزيزي القارئ: قَرِّب الضعفاء منك، كم سيدفع الله بهم عنك من بليةٍ وشرَّ.مَن أراد النَّجاة، وعُلُو المنْزلة في الدار الآخرة، فليدخل على الله من باب الإحسان إلى الضعفاء والمساكين، والأرملة، والأيتام، وذوي الحاجات، وليحسن إليهم بما يستطيعه، فإنَّ الله تعالى قريبٌ من المنكسرةِ قلوبهم، رحيمٌ بمن يرحم عباده.