مساجد البيوت .. السنة الغائبة

 المساجد في الإسلام متنوعة

نتحدث في هذه المقالة عن سنة غائبة عن حياة كثير من المسلمين، نتحدث عن مساجد البيوت، ولا أريد بذلك تلك المساجدَ المنتشرة، في كثير من البلاد، تحت البنايات والعمارات، والتي يصلي فيها المسلمون الصلوات الخمس، وربما الجمعةَ أيضاً، وإنما أريد مساجدَ من نوع آخر، تكون داخلَ بيوتنا بل داخلَ الشقق والغرف.
إن المساجد في الإسلام متنوعة، فأعظمها المسجدُ الحرام، والصلاة فيه بمئة ألف صلاة، ثم المسجد النبوي، والصلاة فيه بألف صلاة، ثم المسجدُ الأقصى، والصلاةُ فيه بمئتي وخمسين صلاة.
فقد ثبتَ في حديثٍ حسن أن النبي ﷺ سئل عن الصلاة فيه، فقال: صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلواتٍ فيه.
وأما ما ورد أن الصلاةَ فيه بخمسِ مئةِ صلاةٍ، فضعيف لا يثبت.
ويلي المسجدَ الأقصى مسجدُ قباء، والصلاةُ فيه بعمرة، وما عدا هذه المساجدَ الأربعة لم يثبت في شأنها فضل.
ويلي هذه المساجدَ الأربعة في الإسلام، المسجدُ الجامع الذي تُصلَى فيه الجمعة، ثم مسجدُ الحي الذي له إمام راتب ومؤذن، وتُصلَى فيه الصلواتِ الخمس فقط، وربما تُصلَى فيه الجمعة في بعض المناطق المكتظة بالسكان.
ويليه مسجدُ الطريق حيثُ لا إمام فيه ولا مؤذن في غالب البلاد.
ثم أخيراً مسجدُ البيت، يكون داخلَ البيوت ويُصلَّى فيه السنن والرواتب.

مسجد البيت

مسجد البيت : هو المكان الذي يُعده صاحبُ البيت و يهيئه لصلاة السنن و النوافلِ، وقراءةِ القرآن وذكرِ الله عز وجل .
وحكمه عند السادة العلماء الاستحباب للرجال و النساء على حد سواء .
ومسجد البيت يدخل في عموم قول الله عز وجل : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ

 وأدلةُ مشروعيته من السنة كثيرة:

فمنها ما رواه الإمامُ ابنُ ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه:”أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، أَرْسَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ تَعَالَ فَخُطَّ لِي مَسْجِدًا فِي دَارِي أُصَلِّي فِيهِ
 وَذَلِكَ بَعْدَ مَا عَمِيَ فَجَاءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَعَلَ . ”
وهذا الأنصاري المبهم في هذه الرواية هو عِتبان بنُ مالك، يؤكد ذلك الحديثُ المتفقُ عليه عن مَحْمُود بْنَ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيَّ، أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ – وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْأَنْصَارِ – حدثه أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
 فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي، وَإِذَا كَانَتِ الْأَمْطَارُ سَالَ الْوَادِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ،
 وَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنَّ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ فَأُصَلِّيَ لَهُمْ!
 وَدِدْتُ أَنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ، تَأْتِي فَتُصَلِّي فِي مُصَلًّى، فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللهُ»
قَالَ عِتْبَانُ: فَغَدَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّي مِنْ بَيْتِكَ؟»
 قَالَ عتبان: فَأَشَرْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَكَبَّرَ، فَقُمْنَا وَرَاءَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّم

وقد أوضحت الأدلة من السنة الصحيحة، أنَّ لمسجدِ البيت شكلين أو صورتين:

الصورة الأولى: أن يكون مسجدُ البيت عبارة عن موضع أو مكان أو ناحية  في غرفة من غرف البيت.

 فقد بينت رواياتُ حديثِ عتبان بن مالك، أنه اتخذ ناحيةً من غرفةٍ من غرفِ بيته، كما أشارت إلى ذلك هذه الرواية التي أخرجها النسائي وغيره:
عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ السُّيُولَ لَتَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي، فَأُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنِي فَتُصَلِّيَ فِي مَكَانٍ مِنْ بَيْتِي أَتَّخِذُهُ مَسْجِدًا.
 فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سَنَفْعَلُ».
فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَيْنَ تُرِيدُ؟»
قال عتبان: فَأَشَرْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ.
فالهيئة الأولى لمسجدِ البيت عبارة عن مكان محدود في غرفة من غرف البيت.
أما إن كان البيتُ واسعاً، فيستحبُّ أن تُخصصَ غرفة من الغرف لمسجد البيت، وماذا في ذلك؟
فكما أن هنالك غرفةً للنوم، وغرفةً للملابس، وغرفةً للمعيشة، وغرفةً للضيوف، فما المانع أن يكون هنالك غرفةٌ للصلاة، أو غرفةٌ لمسجد البيت.
ويدل على هذه الصورة حديثُ أمِّ حميد بسندٍ حسنٍ في مسند أحمد وغيره، أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ مَعَكَ.
 قَالَ: ” قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ تُحِبِّينَ الصَّلَاةَ مَعِي، وَصَلَاتُكِ فِي بَيْتِكِ خَيْرٌ لَكِ …
 وَصَلَاتُكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِي “
فَأَمَرَتْ أمُّ حُميد، فَبُنِيَ لَهَا مَسْجِدٌ فِي أَقْصَى شَيْءٍ مِنْ بَيْتِهَا، فَكَانَتْ تُصَلِّي فِيهِ حَتَّى لَقِيَتِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ”

عزيزي القارئ: لقد انتشرت مساجدُ البيوت في عهد السلف الصالح بشكل كبير.

ولا عجب في ذلك، فقد كانوا في القمة السامقة في العبادة والإقبال على الله تعالى، فاتخذوا في بيوتهم المتواضعة، مساجدَ تعينهم على التقرب إلى الله تعالى.
يدل على ذلك حديثُ ابنِ مسعود رضي الله عنه في صحيح مسلم وسنن أبي داود وغيرهما قال:
 مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ غَدًا مُسْلِمًا، فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ سُنَنَ الْهُدَى، وَمَا مِنْكُمْ إِلَّا وَلَهُ مَسْجِدٌ فِي بَيْتِهِ، وهذا موضع الشاهد، وَمَا مِنْكُمْ إِلَّا وَلَهُ مَسْجِدٌ فِي بَيْتِهِ، وَلَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومٌ نِفَاقُهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ الرَّجُلَ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ”
وقد أكد على ذلك الحافظُ ابنُ حجر في فتح الباري عندما شرح بابَ المساجد في البيوت من صحيح البخاري، فقال :” كان من عادة السلف أن يتخذوا في بيوتهم أماكنَ مُعَدَةً للصلاة فيها “
سؤال: من أولُ من اتخذَ من السلف مسجداً في بيته؟
يجيبُ عن هذا السؤال، سفيان، فقد قال:
أول من اتخذ مسجدا في بيته يصلي فيه عمار بن ياسر.
وروى محمد بنُ سعدٍ عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، قال: أول من بنى مسجدا يصلي فيه عمار بن ياسر.
وقد تبين لي بالبحث والتتبع، أنَّ أولَ من بنى مسجداً في فناء دارهِ وساحته، التي تكون أمامَ البيت وجانبَه، هو شيخُ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم، أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه.
فقد أخرج البخاري عن عَائِشَةَ زَوْج النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ:
 لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَىَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَىِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً ، ثُمَّ بَدَا لأَبِى بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ ، فَكَانَ يُصَلِّى فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ
 فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ ، وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ.
 وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”
فأول من اتحذ مسجدا في فناء الدار وساحته الأمامية أو الجانبية، أبو بكر رضي الله عنه.
وأول من اتخذ مسجداً داخلَ بيته عمار بن ياسر رضي الله عنه، وهنالك من الصحابة من اتخذ مسجدا في داره، ومسجداً آخرَ داخل بيته!
فقد أخرج ابنُ أبي شيبة عَنِ امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ، كَانَ لَهُ مَسْجِدَانِ : مَسْجِدٌ فِي بَيْتِهِ ، وَمَسْجِدٌ فِي دَارِهِ .
إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي فِي بَيْتِهِ
وَإِذَا دَخَلَ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي فِي دَارِهِ”وروى ابنُ أبي شيبة في المصنف أيضا أن أبا مجلز – رضي الله عنه – قد اتخذ مسجداً في بيته ؛ وربما صلى فيه بأهله و غلمانهِ جماعة
وقد ثبت عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه أنه اتخذ في بيته مسجداً، و أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصليي فيه.

وثبت أيضا عن عبد الله بن سلام – رضي الله عنه –  أنه كان له مسجداً في بيته ، و قد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم
و ثبت أيضا عن جويرية – رضي الله عنها – اتخذت مسجداً في بيتها، كما ثبتَ ذلك عن زينب – رضي الله عنها – أيضاً،، روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه

وقال  البخاري في صحيحه: باب المساجد في البيوت، وصلى البراء بن عازب في مسجدهِ في دارهِ جماعة..
فظهر من تلك الأحاديثِ والروايات انتشارُ مساجدِ البيوت في عهد سلفنا الصالح.

مساجد البيوت من السنن التي هُجرت

إن مساجد البيوت من السنن التي هُجرت، فترى البيوت تُشيد على أحدث التصاميم، وقد خُصص فيها غرف للنوم والطعام والاستقبال، ولا تجد غرفةً للصلاة، إلا من رحم الله.

وهذه دعوة للمكاتب الهندسية والشركات العقارية في أرجاء العالم الإسلامي، أن يعرفوا أن مساجد البيوت من السنة النبوية، وأن يجعلوها ضمن برامجهم وخططهم.هذا وللمساجدِ في البيوت ثمراتٌ وفوائد، وآدابٌ وأحكام، نبينها بإذن الله تعالى في المقالة القادمة، فإلى ذلك الحين نستودعكم الله