أهمية الستر

كم من البيوت تهدَّمت على أصحابها، بسبب هتْك سِترها وانكشافِ أسرارها. كم من إنسانٍ ضاع مستقبله، وتحولت حياته إلى كابوس كئيب، كان ذلك بسبب كشف ستره، وانفضاح أمره.

إن بعض الناس لا يهوى ستر الله على عباده، فيسعى إلى تمزيق ذاك الرداء الجميل، ونزعهِ عن عباد الله، كما نزعه الشيطانُ عن أبوينا، كما قال ربنا:

“يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْأَتَهُمَا” [الأعراف: 27].

إن الذين يسعون في فضح الخلق وكشف سترهم، إنما يعملون عملَ الشيطان! الذي بدأ به قصته مع الإنسان.

الدعوة للستر

لا تكشفن مساوي الناس ما سُتروا * فيهتكُ الله سترا عن مساويكا

الستر على المسلمين، ذلك الخُلق النبيل، هو مدار حديثنا.

فالستر هو إخفاءُ زلاتِ الناس وعثراتهم، وتغطيةُ عيوبهم، والتكتيمُ عليها، وعدمُ ذكرها والإفصاحِ عنها. فإذا عرفت عن صديق أو زميل، أو قريب أو بعيد، عيبا من العيوب، أو سلبيةً من السلبيات فلا تُعرّف الناس بما عرفت. وإذا اطلعت على معصيةٍ صغيرة أو كبيرة، حرص صاحبُها على إخفائها، فاحرص أنت أيضاً على إخفائها، ولا تُطلع الناس على ما اطلعت عليه.

ستر العاصي

وإذا رأيت رجلاً اشتهر بين الناس بالخير والعفة، إذا رأيتَه قد خلا بمحارم الله فانتهكها، فلا تنتهك ستر الله عليه، واجتهد أكثر منه أن تكتم عن الناس الذي رأيت، كأنك ما رأيت.

إذا صادفت امرأةً أو رجلاً يفعلُ منكرا في الخفاء، فاستر عليه، فإنه لا يجوز لك شرعاً أن تتعرضَ لأحدٍ فعلَ منكراً في الخفاء، كما قرر ذلك العلماء.

فلا تبحث عنه بحجة أن تنهى عن المنكر، فإن هذا من التجسس الذي نهى الله عنه. قال الماوردي:

“كل من ستر معصيته في داره، وأغلق بابه، لا يجوز أن يتجسس عليه.”

العفو والنصيحة

عوِّد نفسك على ستر العصاة، وانصحهم في السر دون العلانية، وعظهم فيما بينك وبينهم، ولا تفضحهم فيفضحُك الله إذا وقعتَ في معصية، فإن كل بني آدم خطاء، وكذلك كنتم فمن الله عليكم.

“تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادِي وجنِّبني النصيحةَ في الجماعهْ، فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ من التوبيخِ لا أرضى استماعه.”

إن العاصي يحتاج إلى سترك الجميل، وموعظتك الحسنة حتى يقلع عن معصيته! قَال الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ رحمه الله:

“الْمُؤْمِنُ يَسْتُرُ وَيَنْصَحُ، وَالْفَاجِرُ يَهْتِكُ وَيُعَيِّرُ.”

إن الذي يقترف الإثم، يحتاج إلى رفق ولين، لكي يقلع عن معصيته، وفي صحيح مسلم عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:

“إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَىْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا شَانَهُ.”

حماية المجتمع

إن الشارد عن الله، يحتاج إلى من يأخذ بيده إلى مولاه؛ لِيُنِيب إليه، وينطرحَ بين يديه، ليَقْبَلَ توبتَه، بدلاً من فضحه، وهَتْكِ ستره، وتَـتَـبُّعِ عورته، وكَشْفِ مساوئه، وإعانةِ الشَّيطان عليه.

فإن هتك عورات العصاةِ من المسلمين يؤدِّي إلى إفسادِهم، وتَماديهم فِي معصية ربِّهم.

ألم تسمع قولَ نبينا صلى الله عليه وسلم لمعاوية، فيما أخرجه أبو داود قال:

“إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ، أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُم.”

لذلك نَدَبَ الإسلامُ إلى سَتْرِ العَوْراتِ ونَهى عن تَتَبُّعِها، وجعل جزاءَ الستر في الدنيا ستراً في الدنيا، وستراً أعظمَ منه في الآخرة.

وفي موقفٍ أعظمَ ما يكون الاحتياج فيه إلى الستر، ففي صحيح مسلم عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ:

“مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَةُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.”

مسؤولية الفرد

على أنَّ المقترفَ للإثم أو الواقعَ في المعصية مطالبٌ قبلَ غيره بالسَّتْرِ على نفسِه، وإلاَّ حُرِمَ عَفْوُ ربه ومغفرتُه وسترُه، وباء بِمَقْتِهِ. وفي الصحيحين سمع أبو هريرة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:

“كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ.”

فالْمُجَاهِرُونَ بِالْمَعَاصِي لَا يُعَافَوْنَ، فقد كشفوا ما ستر الله عليهم، وتحدثوا بما عملوا من المعاصي، لغير ضرورة ولا حاجة.

“كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ فَيَقُولُ: يَا فُلاَنُ! عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا. وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَلَيْه.”

فإذا اقترفت الإثم، ووقعت في المعصية، فاستر على نفسك، واسكت ولا تتكلم. قال ابن مسعود:

“من جاء يريد أن يُطْلِعَنا على عورةٍ، قد سَتَرَها اللهُ عليه، فَلْيَسْتَتِرْ بستر الله، وليَقْبَلْ عافيةَ الله، وليُسْرِرْ توبتَه إلى الذي يَملك مغفرتَها، فإنَّا لا نَملك مغفرتَها.”

الختام

إن الستر من صفات الله جل في علاه، فإن الله سِتِّير يحب الستر على عباده في الدنيا والآخرة. وفي قصة ماعز الذي زنى، فقد جاء هزّال فقال: أنا أمرته أن يأتي فيعترف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

“يا هزّال لو سترته بثوبك لكان خيرا لك.”

ولقد كان خُلُق الستر واقعا معاشا في القرون الإسلامية الأولى، وترجمه السَّلفُ الصَّالح إلى واقع عمليٍّ رحيم. حتى قال شيخُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصِّدِّيق:

“لو لَم أجد للسَّارق والزَّاني وشارب الخمر إلاَّ ثوبِي؛ لأَحْبَبْتُ أن أَسْتُرَه عليه.”

وكان الصديق يقول أيضا:

“لو رأيتُ رَجُلاً على حدٍّ من حدودِ الله، ما أَخَذْتُه، ولا دَعَوْتُ له أحداً، حتَّى يكون معي غيري.”

وقبض عمَّار بن ياسر على سارقٍ متلبساً بسرقته، ثُمَّ تركه يهرب، وقال:

“أَسْتُرُه؛ لعلَّ اللهَ يَسْتُرُنِي.”

أما ابنُ عبَّاس فقد قبض على سارقٍ أيضًا، ثم زوِّده بالمال، وتركه ينصرف.

إن بعضَ الطيبين ممن يريد أن يستر ولا يفضح، ويتورعُ عن الغيبة، إذا سئل عن أحد من العصاة قال:

“الله يستر علينا وعليه” أو قال: “نسأل اللّه العافية”، أو قال: “اللّه يُصلحه.”

وقد عدَّ العلماء ذلك من الغيبة، واسموها بغيبة المتفقهين والمتعبدين، لأنهم يعرضون بالغيبة تعريضاً يُفهم به كما يُفهم الصريح، فكل ذلك غيبة محرّمة، فضابط الغيبة: أن تُفْهِمَ من يسمعك نقص إنسان بعينه.

وهكذا نجد منهجَ الإسلام الحكيم، تجاه العصاة والمسرفين، يدعوهم قبل غيرهم للسَّتْرِ على أنفسِهم، ويُحَذِّرُ المسلمين من تَتَبُّعِ عوراتِهم، ويُحَرِّمُ السَّبيلَ إلى انتهاكها، فَيَنْهَى عن التَّجَسُّسِ والغِيبةِ، ثُمَّ يَفْتَحُ لَهم أبوابَ التَّوْبَةِ، ويدعوهم إلى الأمل والرَّجاء والثِّقَة بعفو الله، إنَّها رحمةُ الله الواسعة، وحكمتُه البالغة.

لكن أمر الستر ليس على إطلاقه، بل فيه تفصيل، فما سبق من النصوص في الستر، إنما هو في حق من يجتهد في حفظ سمعته وعرضه، ويبتعد عن الفسق والفجور، فمثلُ هذا إذا وَقَعَتْ منه هفوةٌ أو زلَّـةٌ، فإنَّه لا يجوز هَتْكُها ولا كَشْفُها ولا التَّحدُّثُ بِها؛ لأنَّ ذلك غيبةٌ محرَّمةٌ.

ومن هؤلاء الذين يجب الستر عليهم، مَن لهم منزلة في المجتمع، وعرفوا بالخير، واشتُهروا بصيانة أعراضهم، فمن وقع منهم في معصية أو زلة قدمٍ، فينبغي أن يُستروا، ليس لذواتهم، بل لأن الناس تقتدي بهم، وفي أمثالهم قال صلى الله عليه وسلم في حديث حسن رواه أحمد وأبو داود:

“أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم.”

وأما من كان مشتهراً بالمعاصي معلنًا بالفسق والفجور، ولا يُبَالي بِما ارتكب منها، ولا بِما قيل فيه، بل قد تعمدَ فضحَ نفسه، ولم يستر بستر الله، فهذا استثناه السادة العلماء من الستر، وكيف نستر عليه وهو لم يسترْ على نفسه.

إذا كان السكوت عنه يضر بالمجتمع وينخدع الناس به، فقد أكد العلماء أنه لا بد من كشف أمره للجهات المسؤولة، حماية للمجتمع من شره، وردعاً لأمثاله من الأشرار.

ويستثنى من الستر أيضاً كلُّ من تسولُ له نفسُه أن يقوم بعملٍ يتضرر منه الوطن، ويكون في ستره إضرارٌ بأمن المجتمع، كمن يروجُ المخدرات أو يقوم بأعمال إرهابية، فهذا يُتقربُ إلى الله برفع أمره إلى الجهات المختصة، لينعمَ الناسُ جميعاً بالأمن والأمان في المجتمع.

ويستثنى من الستر أيضاً، أداء الشهادة إذا طُلبت منك عند القضاء أو غيره من الجهات المسؤولة، فقد ينجم عن الستر براءةُ الظالم وضياعُ حق المظلوم:

“ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.” [البقرة: 283]

وكذلك إذا جاءك من يستشيرُك في الزواج من فلانة أو فلان، فيجوز أن تخبر عمن سئلت عنه بما فيه من سلبيات، قال عليه الصلاة والسلام لفاطمة بنت قيس:

“أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه، يعني أنه يضرب النساء، أو أنه يسافر كثيرا مما يضر بالنساء.”

دعاء

اللهم يا من أظهر الجميل، و ستر القبيح، ولم يهتك الستر، يا عظيم العفو، يا كريم الصفح ، يا حسن التجاوز، تجاوز عنا واسترنا بسترك الجميل.