وضع الديون عن المديون

معسرون يقضون شهـورا وسنواتٍ خلف القضبان، مكبلين بسلاسلِ القروضِ والديون.

تقول زوجةُ أحدهم: كنا نعيش حياةً زوجية سعيدة، يملؤها الحب في كل أرجاء المنزل، حتى دخل زوجي في عالم الديون، وحاليا يعيش خلف القضبان، بعدها أصبحت حياتُنا مليئةً بالكآبة والأحزان.

عزيزي القارئ: إن نظرةَ الإسلام للمال نظرةٌ واسعة حكيمة

جديرةٌ بتحقيق التكافل والتراحم بين الناس، فالمال في الإسلام، هو مالُ الله تبارك وتعالى، قد استخلف الإنسانَ عليه، وفوضَه في التصرف فيه، وفق شريعتهِ الحكيمة العادلة كما قال تعالى ((وآتوهم مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ))
 فالمالُ الذي بيدك، عطيةٌ من الله لك، ومحضُ إحسانٍ منه إليك، فأحسنْ إلى عباد الله، كما أحسن الله إليك.

ومن أعظم الإحسان: أن تُقرضَ المحتاجين،

الذين لا يمدون أيديَهم لصدقات الناس، فنفوسهم عزيزة أبية، لكن الحاجةَ دفعتهم، ومطالبَ الحياة اضطرتهم للاستدانة، دفعتهم الحاجة والضرورة، لا الرفاهية، ولا الكماليات.
هؤلاء الذين دفعتهم الحاجةُ للإقتراض، رغب الإسلامُ في إقراضهم، ووعد المقرضَ لهم بالجزاء الأوفى والمثوبةِ الكبرى، وذلك لكي يحفز أصحابَ المال وأهلَ اليسر على إقراض المحتاجين، لقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم المقرضَ أن له” كلَّ يوم مثلَ قرضهِ صدقة، قبل أن يحل الدين، فإذا حل فأنظره، فله كلَّ يوم مثلاه صدقة” كما رواه الحاكم وغيره بسند حسن.
حقاً إنها تجارةٌ رابحة، يدعو إليها الإسلام لرحمة المحتاجين، والتخفيف عنهم، فلو أدنتَ ألفا ووعدك المدينُ أن يسدد بعد شهر، فكأنك تتصدق كلَّ يومٍ بألفِ درهم، يعني بثلاثين ألفاً كلَّ شهر، فإذا جاء موعد السداد وكان المدينُ معسراً، وصبرتَ عليه، والصبر هاهنا واجب شرعي، إذا كان المدينُ معسراً بحق غيرَ متلاعب، فالله يقول: ((وإن كان ذو عسرةٍ فنظرة إلى ميسرة))
فالصبر على المدينِ المعسر فرض أكيد، فلا تحل مطالبتُه بما عليه من دين، حتى ييسره الله عليه، فإنْ صبرتَ عليه بعد حلول الأجل، فكأنك تتصدق كل يوم بألفين، فإذا سدد بعد شهرٍ مثلا، فكأنك تصدقت في شهرك هذا بستين ألفا، فمجموعُ ما تصدقتَ به في الشهرين، تسعون ألفا.
تسعون ألفاً مقابلَ ألفٍ سيرجع إليك، ربحَ البيعُ ورب البيت، ولا غرابة في ذلك، إذا كنا نتاجر مع الرب الكريم، ذو الفضل العظيم، فعطاؤه واسعٌ لا نهاية له.
لكن هنالك أمراً أكبرَ من مجرد إنظار المدين المعسر والصبر عليه، أكدت عليه الآيةُ التي ذكرناها!
((وإن كان ذو عسرةٍ فنظرة إلى ميسرة (استمع لما بعدها) وأن تصدقوا خير لكم))
ولذلك قال السادة العلماء: إنظارُ المعسر واجب، لكن الصدقةَ عليه بالتنازلِ عن كل دينه، أو بعض دينه أفضل.
ولقد وعد الله من أنظر المديونَ المعسر إلى ميسرة، أو تنازلَ له عن دينه كلهِ أو بعضهِ، وعده الجزاء الأوفى، والمثوبةَ الكبرى.

فمن ذلك أن الله ييسر عليه في الدنيا والآخرة،

لأنه يسر على أخيه المحتاج، وخفف عنه من أثقال الحياة.
والجزاءُ من جنس العمل، ففي صحيح مسلم: قال صلى الله عليه وسلم “من يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة”  كما أن الله سينفس عن المقرضِ من كرب الآخرة، كما نفس عن أخيه المديون من كرب الدنيا، فالجزاءُ من جنس العمل. قال صلى الله عليه وسلم: كما في صحيح مسلم: « مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ »
ومن ثواب الله لمن يضعُ الدينَ كلَّه أو بعضَه عن المديون المعسر، أن الله يتجاوزُ عنه في الآخرة ويعفُو عنه، كما تجاوزَ وعفا عن دَين أخيه.
أخرج البخاري في باب من انظر معسرا، وأخرجه مسلم أيضا عن أبي هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ (والقائمين على أمورِ أموالهِ) : تَجَاوَزُوا عَنْهُ، أي لا تطالبوا هذا المعسر بما عليه من دَين، أو أخروا دَينه إلى ميسرة، أو اقبلوا منه الموجود معه، تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا ، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ » .
وَقد ثبت فِي رِوَايَة: أن هذا التاجر لم يعْمل خيرا قطّ، وليس له من العمل الصالح إلا أنه  كَانَ يداين النَّاس”
وفي رواية الْحَاكِم على شَرط مُسلم، أنه كان يقول للقائم بشؤون استيفاء ديونه: “خُذ مَا تيَسّر، واترك مَا تعسر، وَتجَاوز لَعَلَّ الله أَن يتَجَاوَز عَنَّا” ، فَقَالَ الله تَعَالَى: قد تجاوزتُ عَنْك”.

ومما نبشرُ به من ثوابِ الله لمن يضعُ الدينَ كلَّه أو بعضَه عن المديون المعسر

أن الله سيُظلُّه في ظل عرشه يومَ القيامة، فقد أخرج مسلم من حديث عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا،( قبل أن يهلك الأنصار، إنه الحرصُ على أخذ العلم من أكابر العلماء، فإنه يعصم من الغلو والانحراف، ما الذي أوقع بعضَ شبابِنا في الغلو والتطرف، أقولها بكل صراحة: لأنهم يأخذون العلم من أمثالهم من الشباب.
قال عبادة:فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِينَا أَبَا الْيَسَرِ، صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم .. فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا عَمِّ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِكَ سَفْعَةً مِنْ غَضَبٍ، قَالَ: أَجَلْ،
إنه الأدبُ والتلطف في طلب العلم مع المعلمِ والأستاذ، فلابد من إظهارِ الشفقة  والحنان والمشاعر الطيبة.
يَا عَمِّ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِكَ سَفْعَةً مِنْ غَضَبٍ، قَالَ: أَجَلْ،
كَانَ لِي عَلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ مَالٌ، والحرامي نسبه لبني حرام قبيلة معروفة، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ، فَسَلَّمْتُ، فَقُلْتُ: ثَمَّ هُوَ؟
أدب آخر من آداب الاستئذان وزيارةِ البيوت.
ثَمَّ هُوَ؟ فلان موجود
قَالُوا: لَا، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، اختبأ المسكين، إنه الدينُ ذل بالنهار، وهم بالليل.
فَقُلْتُ: اخْرُجْ إِلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ، فَخَرَجَ.
فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟
قَالَ: أَنَا، وَاللهِ أُحَدِّثُكَ، ثُمَّ لَا أَكْذِبُكَ، خَشِيتُ وَاللهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ فَأَكْذِبَكَ، وَأَنْ أَعِدَكَ فَأُخْلِفَكَ، وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَكُنْتُ وَاللهِ مُعْسِرًا قَالَ: قُلْتُ: آللَّهِ قَالَ: اللهِ قُلْتُ: آللَّهِ قَالَ: اللهِ قُلْتُ: آللَّهِ قَالَ: اللهِ قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ، فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي، وَإِلَّا، أَنْتَ فِي حِلٍّ.
فَأَشْهَدُ أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ»
مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أي أمهل مديونا فقيرا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أي ترك له الدَّينَ كلِّه، أو بعضَه، أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ.

وهكذا وجدنا الإسلامَ العظيم، يُرغب في إقراض المحتاجين

ويجعلُ أعظمَ الأجرِ والثوابِ لمن ينظرُهم إلى ميسرة، أو يتنازلُ عن دينه كلِّه أو بعضِه، لكن الإسلام قد تميز بالتوسطية والتوازن في كل أحكامه وتوجيهاته، فأين التوازنُ والتوسطية في قضية الديون؟
حين رغب صاحبُ الشريعة صلى الله عليه وسلم في إقراض المحتاجين، ووعد على ذلك المثوبةَ الكبرى والجزاءَ الأوفى، فإنه في الوقت ذاته حذر من الاستدانة لغير ضرورة.
فقد أخرج أحمد وغيره بسند حسن، عن عُقْبَة بْن عَامِرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لأَصْحَابِهِ:
 لاَ تُخِيفُوا أَنْفُسَكُمْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَبِمَ نُخِيفُ أَنْفُسُنَا؟ قَالَ: بِالدَّيْنِ.
أحبتي: لا تخيفوا أنفسكم، فلا تقترضوا إلا للضرورة، فإن الديون ربما كانت مصدرَ الخوفِ والقلقِ في حياتكم، والخوف في الدنيا أمره يهون.
أما الخوف الذي يكون في الآخرة، فإن الدَّين شديد جدا عند الله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والحاكم والبيهقي “مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلَيْسَ بِالدِّينَارِ وَلَا بِالدِّرْهَمِ، وَلَكِنَّهَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ
ليس ذلك فحسب، فقد ثبت في بعض الأحاديث أن من مات وعليه دين، يُعذب في قبره حتى يُقضى دينه، وثبت في صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كلُّ ذَنْب إِلَّا الدّين»
وكان الصحابةُ إذا أتوا بالميت، لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، وصلاته صلى الله عليه وسلم سكنٌ لهم وشفاعةٌ عظيمة للميت، سأل عن دينه قبل أن يصلي عليه، فإذا كان عليه دين، قال صلوا على صاحبكم، فإن عليه ديناً.
ولم يكن يسألُ عن أي شيئ آخر؛ لأن الميت مرهونٌ بدينه في قبره، ولا يدخل الجنةَ حتَّى يُقْضَى دَيْنُهُ.
فإن ذنوبَ حقوقِ العباد مبنيةٌ على الشدة والمشاححة، ولا يكفي في تطهيرها مجردُ التوبة أو الشفاعة وإن كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلافا للذنوب التي بين العبد وربه، فإنها مهما عظمت، فهي مبنيةٌ على المسامحة والعفو والغفران، ويقبلُ الله فيها شفاعةَ الشافعين.
كما حذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عدمِ ردِّ الديون إلى أصحابها فقالَ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ». رواه البخاري
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يرشد أصحابه إلى التعوذ من الديون كلها، ففي الحديث المتفق عليه عن عَائِشَةَ – رضى الله عنها – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِى الصَّلاَةِ وَيَقُولُ « اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ » .
 فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنَ الْمَغْرَمِ قَالَ « إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ يعني اقترض، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ »
والواقِعُ يُصَدِّقُ هذَا ، فَكَمْ مِنْ أفرادٍ ساءَتْ أحوالُهُمْ بسببِ الدِّيْونِ، فكم كذبوا على الدائنين، وكم أخلفوهم ما وعدوهم
فلا ينبغي لمن يرجو الله والدار الآخرة أن يتساهل في الديون، أو أن يقترض لغير حاجةٍ أو ضرورة، أو أن يقترض لشراء بعض الكماليات، أو أن يقترضَ وهو يعلمُ عدمَ قدرته على السداد في المستقبل.

أما من نزلت به ضائقةٌ مالية، فاقترض مضطرا، وعزم على السداد

فلا حرج عليه، ولا عيب ، ولا ينقص ذلك من قدره.
فقد دلت السنة على جواز الاقتراض للحاجة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكفل الله بإعانةِ مَنْ عَزم على السداد، كما في الحديث الذي سبق” من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه”.

 

اللَّهُمَّ اكْفِنَا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وأَغْنِنا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ والسلام عليكم ورحمة الله.