في هذه الحلقة بإذن الله تعالى نستعرضُ بابين اثنين السابعَ عشر والثامنَ عشر من كتاب التعبير، يتعلقان برؤيا القميص في المنام، وبيانِ مناقب أحدِ عظماءِ الإسلام، فمن يكون؟ يقول البخاري رحمه الله:

باب القميص في المنام

7008 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ، وَمَرَّ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ» قَالُوا: مَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الدِّينَ».

ثم قال البخاري:

بَاب جَر القَمِيص فِي المَنَام.

7009 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ عُرِضُوا عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجْتَرُّهُ» قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الدِّينَ».

هذه هي الرؤيا الثانية التي يراها رسول الهدى ﷺ في عمر بن الخطاب،

تدل على كبير فضله وعظيم شأنه، وقد وقفنا فأطلنا الوقوفَ عند الرؤيا الأولى في الحلقةِ الماضية ، وفيها يقول ﷺ «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ مِنْ أَطْرَافِي، فَأَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ» فَقَالَ مَنْ حَوْلَهُ: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «العِلْمَ»

إن رؤيا الأنبياء حق،

وقد أثبتت الحوادثُ والوقائعُ أن رؤى رسول الله في عمر كانت حقاً وصدقاً، فهو الرجلُ الثالثُ في الإسلام عن جدارة واستحقاق، أقامه اللهُ سبحانه إعزازاً لدينه، وفرقاناً بين الحق والباطل، لا تأخذهُ في الله لومةُ لائِمٍ، وحسبك برجل آته ربه من صفات الأنبياء ونعوت المرسلين حتى استحق أن يقول فيه عليه السلام فيما أخرجه البخاريُّ وغيره “لقَد كانَ فِيما قبلكُم مِن الأُممِ مُحَدَّثُونَ فإِن يَكُن مِن أُمَّتي أحدٌ فإنَّهُ عمرُ” والمحدَّث هو الصَّادِق الظَّنِّ الملهمُ بالصواب الذي يجري الحقُّ على لسانه. وفي هذه الرؤيا يقول ﷺ “بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ عُرِضُوا عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ” (عُرِضُوا عَلَيَّ) أي ظهروا لي (وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ) جمع قميص ويجمع أيضاً على قمصان وأقمصة، والمعنى أنه على كل واحد منهم قميصٌ، (فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَ ــ جمع الثدي ـــ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ) وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقَمِيصَ قَصِيرٌ جِدًّا ويَحْتَمِلُ أَنْه ﷺ يُرِيدَ دُونَهُ مِنْ الجِهَةِ السُّفْلى وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَيَكُونُ أَطْوَلَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ دُونَهُ مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ فَيَكُونَ أَقْصَرَ، أي أقصر من الثدي فيكون فوق الثدي، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أي دُونَهُ مِنْ الجِهَةِ السُّفْلى مَا فِي رِوَايَةِ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ من طَرِيق أُخْرَى “فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ قَمِيصُهُ إِلَى سُرَّتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ قَمِيصُهُ إِلَى رُكْبَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ قَمِيصُهُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ”

وقَوْلُهُ ﷺ : “وَمَرَّ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ” وفي الرواية الأخرى " وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجْتَرُّهُ" أي مر عمر وقد لبس قميصا غطى رجليه حتى إنه يجره على الأرض لطوله، وَهَذَا مِنْ الأَمْثِلَةِ التي ذكرناها على أن أحكام المنام تختلف عن أحكام اليقظة، فجرُّ الثوب ممَا يُحْمَدُ فِي الْمَنَامِ لكنه يُذَمُّ فِي الْيَقَظَةِ شَرْعًا لما ثَبت من الْوَعيد فِي تطويله خيلاء. قَالُوا: مَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الدِّينَ» هكذا عبره ﷺ  فإن القميص كما يكون وقايةً لبدن الإنسان من الحر والبرد والأذى، كذلك الدينُ يكونُ حافظًا لعرضِ الإنسان من الوقوع في الأعمال السيئة، والْمُرَادُ بِالدِّينِ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ كَالْحِرْصِ عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ الْمَنَاهِي وَكَانَ لِعُمَرَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامُ الْعَالِي.

قَال السادة العلماءُ:

وَجْهُ تَعْبِيرِ الْقَمِيصِ بِالدِّينِ أَنَّ الْقَمِيصَ يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالدِّينُ يَسْتُرُهَا فِي الْآخِرَةِ وَيَحْجُبُهَا عَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى ولباس التَّقْوَى ذَلِك خير،

وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ الْفَضْلِ وَالْعَفَافِ بِالْقَمِيصِ، وتقول:

فلان نقي الثوب إذا كان صالحًا في دينه.

وَقَالَ ابن الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا أَوَّلَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِالدِّينِ، لِأَنَّ الدِّينَ يَسْتُرُ عَوْرَةَ الْجَهْلِ كَمَا يَسْتُرُ الثَّوْبُ عَوْرَةَ الْبَدَنِ، وَأَمَّا غَيْرُ عُمَرَ فَالَّذِي كَانَ يَبْلُغُ الثُّدِيَّ هُوَ الَّذِي يَسْتُرُ قَلْبَهُ عَنِ الْكُفْرِ وَإِنْ كَانَ يَتَعَاطَى الْمَعَاصِيَ، وَالَّذِي كَانَ يَبْلُغُ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ وَفَرْجُهُ بَادٍ هُوَ الَّذِي لَمْ يَسْتُرْ رِجْلَيْهِ عَنِ الْمَشْيِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، وَالَّذِي يَسْتُرُ رِجْلَيْهِ هُوَ الَّذِي احْتَجَبَ بِالتَّقْوَى مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَالَّذِي يَجُرُّ قَمِيصَهُ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ بِالْعَمَلِ الصَّالح الْخَالِص.

وكما ذكرنا من قبل فإن تفسير الرؤى يختلف باختلاف الأشخاص والهيئات والوظائف والمهن والزمان والمكان،

فإن القميص أو الثوب أو ما يلبسه الإنسان له تفسيرات أخرى ذكرها المعبرون،

  • منها أنه قد يفسر بمعيشته وعمله ووظيفته،
  • وقد يُعبر القميص ببشارة لقوله تعالى (إذْهَبُوا بقَميصِي هَذَا)،
  • وقد يفسر للرجل بزوجةٍ وللمرأة بزوج،  لقوله تعالى (هن لباس لَكمْ وأنْتمْ لِبَاسٌ لهن) فإن رأى قميصه انفتق فارق امرأته،
  • والقميص الْأَبْيَض والأخضر جيد في المنام،  وَلَا يحمد الأزرق لقَوْله تَعَالَى (ونحشر الْمُجْرمين يؤمئذ زرقا)
  • والقميص الْأَحْمَر للرجل شهرة أو خصومة، لكنه جيد للمرأة إذ يعبر بفرح وسرور،
  • وَالْأسود رفعة وسؤدد ومال، وقد يُفسر بهم وحزن لمن لم يتعود لبس الأسود،
  • وَالثيَاب المتسخة هموم أَو ذنُوب،
  • والمقطعة فقر وعسر في الحالة المادية،
  • والمغسولة شفاء أو توبة وندامة من الذُّنُوب،

والله أعلم.