الرؤيا الصادقة من الله والحلم من الشيطان

وصلنا ولله الحمد للباب الثالث من كتاب التعبير من صحيح البخاري، وقد أخرج فيه بسنده المتصل حديثين اثنين رقم 6984 ورقم  6985، نكتفي  بشرح الحديث الأول.

قال أمير المؤمنين في الحديث الشريف أبو عبد الله محمدُ بنُ إسماعيلَ البخاريُ :

بَابٌ الرُّؤْيَا مِنْ الله

6984 – حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
 الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ

قول البخاري: “بابٌ” بالتنوين “الرؤيا من الله” يعني به أن جميع أنواع الرؤى والأحلام من الرحمن، خلقها ربُّنا رحمةً بنا وفضلاً منه ونعمةً، فكم لها من وظائف، وكم لها من فوائد، ذكرنا بعضها في حلقة سبقت.
وقوله عليه السلام : (( الرؤيا الصادقة من الله))

ثبت في معظم الروايات ” الرؤيا الصالحةُ من الله ” وجاء في بعض الأحاديث “ الرؤيا الحسنةُ من الله
وثبت في بعض الروايات والأحاديث:”الرؤيا من الله” دون وصف، ولا تضاد بين هذه الرويات عند التأمل.
والرؤيا (بالألف) مخصصة للمنام: فهي مصدر رأى في المنام رؤيا ، على وزن فعلى ، وألفه للتأنيث ؛ ولذلك لم ينصرف .
والرؤيةُ (بالتاء المربوطة) مخصصة لليقظة: فهي مصدرُ رأى بعينهِ في اليقظة رؤيةً، فللإنسان حالان، كما يقول ابن العربي، حالةٌ تسمى النوم، وحالةٌ تسمى اليقظة، وفي كليهما جعل الله له إدراكاً يدركُ به الأشياء … فكل شئ تبصره في اليقظة يسميه العربُ رؤيةً بالتاء المربوطة، وكل ما تدركه في النوم يسميه العربُ رؤيا بألف التأنيث، هذا هو المعروف من لسان العرب، لكن قد تجيء الرؤيا (بالألف المخصصة للمنام) بمعنى الرؤيةِ (بالتاء المخصصة لليقظة)؛ كما في قوله تعالى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ، فالرؤيا في هذه الأية معناها رؤيةُ النبي ﷺ في الإسراء لما أراه الله من عجائبِ السموات والملكوت، وكان الإسراءُ من أوله إلى آخره في اليقظة، وليس في المنام.

وقوله ﷺ: (والحُلُمُ من الشيطان ) الحُلُمُ أو الحُلْم هو ما يراه النائم، وحَلَمَ، عبارةٌ عما يراه الرائي في منامه حسنًا كان أو مكروها، وأراد به النبي ﷺ هنا ما يُكره من المنام.

فأمَّا الحِلْم فهو الأناءة، مصدر حَلُمَ  يَحْلِمُ : إذا صفحَ وتجاوزَ.

وظاهرُ قولهِ ﷺ: “الرؤيا من الله والحُلم من الشيطان ” أن الرؤيا الحسنةَ الصالحةَ الصادقةَ التي تضاف إلى الله لا يقال لها حُلم، وأن الكوابيسَ المكروهةَ السيئةَ التي تُضافُ للشيطان لا يقال لها رؤيا، والحق أن ذلك تصرفٌ شرعي، وليس لُغوياً، فالكلُّ يُسمَّى في لغةِ العرب رؤيا، بل وفي لغةِ الشريعة كذلك،

فقد جاء في بعض الأحاديث ” الرؤيا ثلاث ” فأطلق ﷺ على كل الأنواع اسمَ رؤيا،

وباختصار: فالرؤيا والحُلم عبارةٌ عَمَّا يراه النائم في نومهِ من الأشياء، لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن، وغلبَ الحلمُ على ما يراه من الشر والأمر السيئ.. ويُستعمل كلُّ واحدٍ منهما في موضعِ الآخر.

ربما يسألُ سائلٌ : بأنه قد تقرر في عقيدةِ أهل السنة والجماعة أنه لا خالقَ للخيرِ ولا للشرِ غيرُ اللهِ، كما قال الله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر: 62]

فلماذا أضاف الحُلمَ للشيطان في قوله:  ( والحلم من الشيطان )

فالجواب: أن النبي عليه السلام سمى السيئةَ المكروهةَ حلمًا وأضافها إلى الشيطان؛ لأنه هو الذي يخيلُ بها، إذ يتدخلُ في المنامات تدخلاً من نوعٍ ما لا نعلمه كنهَه ولا كيفيتَه، فهو مجردُ تخييلٍ وكيدٍ ومكرِ من الشيطان، ولا حقيقةَ لها في نفسِ الأمر، فإذا علِم الناسُ ذلك، فلا ينبغي أن يحزنوا لها أو يخافوا منها.

 وأضاف النبى ﷺ ما كان حسنا أو صادقا في  تأويله إلى الله وأسماه رؤيا، تأدبا مع الله سبحانه، فإنه لا يُضافُ إلى الله تعالى إلا الطيبُ كقوله تعالى: ( إن عبادى ليس لك عليهم سلطان ) فأضاف عباده الصالحين إلى نفسه، ومعلوم أن غير الصالحين عبادُ الله أيضًا، وقال تعالى: (وطهر بيتى للطائفين)، وكلُّ البيوتِ لله، أما غيرُ الطيب فيضافُ إلى غيره، كما قال إبراهيمُ: (وإذا مرضت فهو يشفين).