الغلو في التكفير في العصر الحديث

وقع الغلو في التكفير في ثلاث قضايا:

الأولى:

تكفير من حكم بغير ما أنزل الله بإطلاق، وهو خطير جدا، لما يترتَّب عليه من خروج على الأنظمةِ والحكوماتِ بالثوراتِ والانقلاباتِ، وما يعقُبُ ذلك من فتن ودماء وويلاتٍ!

والغلاة المكفرون للحكام يستشهدون بآيات ليست على ظاهرها كما نبه على  ذلك أكابر أهل العلم، وأضرب على ذلك مثالين بآيتين عظيمتين، يرددهما بكثرة أصحاب الفكر التكفيري:
قال حافظ أهل المغرب أبو عمر ابن عبد البر : ” وقد ضلَّت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب فاحتجوا بآيات من كتاب الله ليست على ظاهرها مثل قوله تعالى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ” [المائدة:44]}
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وهذه الآية { (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء:65]} مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله”.

إن هؤلاء الغلاة يعتقدون أن كل قانون ليس مسطوراً في نصوص القرآن والسنة يحرم الاحتكام إليه ويكفر المشرع له،

وهذا غلط كبير، فقد قرر السادة العلماء أن القوانين الوضعية ليست كلها باطلاً، فإذا كانت تحقق المصلحة للناس والعدل بينهم فيجوز الحكم بها،

بشرط أن لا تخالف نصوصَ القرآن والسنة، وإجماع الأمة، وقواعد الشريعة ومقاصدها وأصولها العامة.

قال ابن عقيل: “السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لَم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي.. فقد جرى من الخلفاء الراشدين.. ما لا يَجحده عالم بالسنن، ولو لَم يكن إلا تَحريق المصاحف كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة”.
وفي هذا السياق يقول ابن قيم الجوزية: “ومن قال: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط، وتغليط للصحابة

القضية الثانية:

تكفير الدول، فقد تمادى أصحاب الفكر المنحرف في عمايتهم فنادوا في الناس أن بلداننا العربية والإسلامية دار كفر وليست بدول إسلام،

وهذا عكس اعتقاد أهل السنة ويخالف ما رآه علماء المذاهب الأربعة، بل هو اعتقاد فرقة المعتزلة!،

فالمسلمون يسكنون بلادنا، وهم ممكنون منها، وآمنون فيها، وشعائر الإسلام مِن جُمَع وجماعات وأعياد ظاهرة، وهذا يكفي للحكم على بلادنا أنها بلاد إسلامية!

وفي ذلك يقول الحافظُ أبو بكر الإسماعيلي في كتابه ((اعتقاد أهل السنة)) ((ويرون الدارَ دارَ إسلامٍ لا دارَ كفرٍ – كما رأته المعتزلةُ- ما دام النداءُ بالصلاةِ والإقامةِ بها ظاهِرَيْنِ، وأهلُها مُمَكَّنين منها آمِنين)).
برهان ذلك حديث أنس المتفق عليه (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الأذان، فإن سَمع أذانًا أمسك وإلا أغار)) ففيه دليل واضح أن وجود بعض أحكام الإسلام الظاهرة كافٍ للحكم على الدار أو الدولة بالإسلام.

القضية الثالثة:

تكفير الدول والحكام بمطلق موالاة الكفار دون تفصيل، وبلا تفريق بين موالاتهم من أجل دينهم ورضا بكفرهم ــ وهو كفر بلا خلاف ــ وبين موالاتهم لمجرد غرض دنيوي ــ وهو ليس بكفر بإتفاق ــ
يقول ابن تيمية: “وقد تحصل للرجل مودتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنبا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافرا، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم”