إياك والخروج على الحكام .. يا ولدي

 
    يا بني إن للحكام في الإسلام مكانة عالية، ومنْزلة رفيعة، فقد قرن الله طاعته وطاعة رسوله  r  بطاعتهم، كما في آية الأمراء:﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ﴾ [النساء: 59].
   يا بني: إن طاعته الحكام والالتفاف حولهم يقوي كيان الأمة، ويغلق أبواب الفتنة! ذلك أن الله يدفع بالحاكم القوي عن الضعيف، والظالم عن المظلوم، فلولا الله ثُمَّ السلطان، ما استتب الأمن، ولضاعت الحقوقُ والمصالحُ، قال r:(السلطان ظل الله في الأرض، فمن أكرمه أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله).حديث حسن: رواه أحمد (5/42) والترمذي (2225).
    يا بني: إن الناس لا يستقيم لهم أمرٌ، ولا يصلح لهم حال إلا بوجود الحكام، ولذلك جعلَ الإسلامُ نصبَهم فريضةً دينيةً، ولم يوجب لنصبهم أو تعيينهم طريقة معينة، وذلك ليختار المسلمون ما يناسبهم حسب اختلاف الزمان والمكان، وما يلائم أحوال البلاد والعباد، وأثبتت التجارب أن أحسن الطرق طريقة “الاستخلاف وولاية العهد” وذلك بأن يعهدَ الحاكمُ الحالي بالحكم بعده والرئاسة إلى من يثق به من المسلمين، فإذا مات  انتقل الحكمُ بعد موته إلى ولي عهده، وهذا مِما انعقد إجماع الأمة على جوازه، ووقع الاتفاق على صحته، فقد عهد الصديقُ إلى عمر، وعهد عمرُ إلى أهل الشورى، وعهد معاوية إلى ولده، والصحابة متوافرون،ووتتابع المسلمون على ذلك زمان الأمويين والعباسيين ومن بعدهم، ويرى ابنُ حزم وغيره أن تلك الطريقة هي الطريق المثلى في تولية الحكام، فها هو يقول: “عقد الإمامة يصح بوجوه: أولها وأفضلها وأصحها: أن يعهدَ الإمامُ الميتُ إلى إنسانٍ يَختاره إمامًا بعد موته، وسواء فعل ذلك في صحته، أو في مرضه، أو عند موته..كما فعل أبو بكر بعمر، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز، وهذا هو الوجه الذي نَختاره، ونكره غيره، لما في هذا الوجه من اتصال الإمامة، وانتظام أمر الإسلام وأهله، ورفع ما يتخوف من الاختلاف والشغب!
     والمحققون من السادة العلماء لم يروا بأسا من استخلاف الحاكم ابنه أو أخاه، ولم يشترطوا كذلك أن يكون الحاكم أفضل الناس وأتقاهم!
فإذا نصب الحاكم بأي طريقة يا ولدي فلا تتأخر عن بيعته، واعرف أحكام البيعة وافقه حقوقها تعش آمناً مطمئناً محافظاً على وحدة الأمة وسلامة أفرادها.
 فالبيعة معاهدة بين الحاكم والرعية على الطاعة والتقيد بالأنظمة والقوانين، ويجب على كل مسلم أن يحافظ على البيعة ويحرم عليه أن يسعى في نقضها، وإن كان الحاكم ظالِمًا أو فاسقًا، قال عدي بن حاتم t: قلنا يا رسول الله: لا نسألك عن طاعة من اتقى، ولكن من فعل وفعل -فذكر الشر- فقال:(اتقوا الله واسمعوا وأطيعوا) حديث صحيح: أخرجه ابن أبِي عاصم في السنة (2/508)، وأجمع أهل السنة أن السلطان لا ينعزل بالفسق.
 فإن خرج أحدٌ على الحاكم الذي تمت له البيعة، فنازعه وطلب البيعة لنفسه وأراد الرئاسة والحكم، “نُهي عن ذلك، فإن لَم ينته قوتل، فإن لَم يندفع شره إلا بقتله، قُتل  وكان دمه هدرًا، برهانُ ذلك حديثُ عبد الله بن عمرو ، عن النَّبِي r  قال: (من بايع إمامًا، فأعطاه صفقة يده، وثَمرةَ قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر) أخرجه مسلم (1473).
وهذه البيعة يا ولدي لا يجوز أن تعطى إلا لحاكم الدولة، ولا يجوز أن تكون  لأحد غيره كائنا من كان، كرئيس حزب أو أمير جماعة، كما يحصل في كثير من الأحزاب  والجماعات، فإن قائد الجماعة ليس بالحاكم الشرعي، وليس له من الحقوق مثل ما له، فلا تجوز مبايعته على إمامته للمسلمين، لعدم توافر شروط صحة البيعة فيه.
ولقد نظم الإسلامُ العلاقةَ بين الحاكم والمحكوم، على أحسن ما يكون، مما يحقق المصلحة، ويدفع المفسدة، فجعل لبيعة الحكام حقوقا وتبعات، أؤكد عليك يا ولدي القيامَ بها ورعايتها حق الرعاية، منها:
أن تخلص لحاكمك وولي أمرك وتبتغي الخير له وتلزم أمره وتحث غيرك على طاعته وتكثر من الدعاء له، فالدعاء للحكام “من أعظم القربات، وأفضل الطاعات” بل من علامات أهل السنة والجماعة، قال البربَهاري (ت328)-رحمه الله-: “إذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح، فاعلم أنه صاحبُ سنة “
كما يجب عليك أن توقره و تحترمه وتبجله يقول  r: (من أجلَّ سلطان الله، أجله الله يوم القيامة) حديث حسن: أخرجه أحمد:(5/42)، والترمذي:(2225)، وابن أبي عاصم في السنة:(1025).
وإياك أن تسبه كما يفعل الجهال، وأحذرك أن تشتمه أو تنتقصه أو تحتقره أو تستهزئ به، كما أحذرك من غيبته أو تتبع عورته فإن غيبته والغض من قدره خطير جدا، قال أنس: “نَهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله r، قالوا: لا تسبوا أمراءكم، ولا تغشوهم، ولا تبغضوهم، واتقوا الله، واصبروا؛ فإن الأمر قريب”
كما أحذرك من انتقاد الحاكم في مجامع الناس علانية، فإنه سبب كل بلاء وفتنة وخلاف منهج أهل السنة!وإذا أردت النصح والتقويم لحاكم أو مسؤول، فاختر الأوقات المناسبة، والأساليب الحسنة، وتكلم بأدب ولطف ورفق ولين، واسمع نبيك عليه السلام يقول::(من أراد أن ينصح لذي سلطان في أمر، فلا يبده علانية، ولكن ليأخذ بيده، فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه له). أخرجه الإمام أحمد وغيره، وصححه المحدث الشيخ الألباني، وقال: “هذا الحديثُ أصل في إخفاء نصيحة السلطان، وأن الناصحَ إذا قام بالنصح على هذا الوجه، فقد برئ، وخلت ذمته من التبعة”.
  يا ولدي تقيد بالأنظمة والقوانين فقد انعقد إجماعُ أهل السنة والجماعة على وجوب السمع والطاعة للحكام والمسؤولين، فيما ليس فيه مخالفة للنصوص الشرعية، فالطاعة واجبة للحاكم المسلم على كل أحد من الرعية، وإن لم يبايع  أو يتعهد بالسمع والطاعة للحاكم ،قالr: (على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره، إلا أن يُؤمر بِمعصية، فإن أمر بِمعصية، فلا سَمع ولا طاعة)” متفق عليه.وليس معنى ذلك أن الحاكم  إذا أمر بمعصية فلا يسمع له مطلقًا في كل أوامره، بل يسمع له ويطاع إلا في خصوص  هذه المعصية التي أمر بها، فافهم ذلك جيدا”
 كما تَجب عليك طاعة الحاكم المسلم إذا قيَّد المباح من الأمر، ورأى في ذلك مصلحة، فقد منع عمرُ خروج أكابر الصحابة من المدينة النبوية، وأمر عثمانُ أبا ذر أن يخرج من الشام، ويقطن المدينة، فاستأذنه أن يخرج إلى الربذة، فأذن له، بل “لو أمر بِجائز لصارت طاعته واجبة، ولما حلَّت مخالفته”، بل “لو أمر بواجبٍ من الواجبات المخيرة، أو ألزمَ بعضَ الأشخاص الدخولَ في واجبات الكفاية لزم ذلك، وأصبح فرض عين في حقه فهذا أمر شرعي وجبت فيه الطاعة.
 كما أنه يجب عليك طاعة الحاكم فيما يختاره من رأي فيما اختلف فيه أهل العلم أو تعددت فيه آراء العلماء واجتهاداتهم، أو فيما لا نص فيه من كتاب أو سنة صحيحة، فإذا كنت ترى في مسألة رأياً خلاف رأي الحاكم، فإن رأي الحاكم هو المتبع في الدولة وليس رأيك! ، أما سمعت ما ثبت في الصحيحين من أن أبا موسى الأشعري كان يفتي الحجيج بالتمتع فلما عرف أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يفتي بخلافه نادى في الناس بأن يأخذوا برأي الأمير دون رأيه، مع أن رأي أبي موسى هو الأرجح دليلاً, والأقوى حُجة.
وتعاون يا بني مع الحاكم في كل ما يحقق لبلادك التقدم والخير والازدهار، ونصرة الحاكم واجبة عليك وعلى كل أحد من الرعية، وإن كان يمنع الحقوق، فإن نصرته نصرة للدين، وقوة ووحدة للمسلمين، لاسيما إذا خرجت عليه فئة تريد أن تخلعه، أو تنْزع يدها من طاعته، قال r: (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد منكم، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)رواه مسلم (1852).فهؤلاء الذين يخرجون على الحاكم بغاة يجب ردهم إلى طاعته، وإلا قوتلوا.
 ولا تنس أن “الصبر على جور الحكام” أصل من أصول أهل السنة والجماعة، ذلك أن الصبرَ على ظلمهم، مع كونه هو الواجب شرعًا، فإنه أخف من ضرر الخروج عليهم، ونزع الطاعة من أيديهم، لما ينتج عن الخروج عليهم من المفاسد العظيمة
فإياك ومعصية الحكام والقيام عليهم بالسلاح أو اللسان، ففي ذلك الهلاك والخزي والخسران، وفيه ضعف الأمة وتفتيت قوتها ووقوع الصدام بين أفرادها، ولو فرضنا أن الحاكم كان ظالما جدلاً، فإن الحاكم الظالم أرحم بالناس من الفتنة ووقوع الصدام بينهم! ألم تسمع إلى قول الحكيم الأول: ” ستون سنة من حاكم جائر خير من سنة واحدة والرعية مهملة ” فإياك والخروج من طاعتهم وتأليب الناس عليهم!
فإن رأيت أحدا من الناس خرج عليه بالسلاح أو اللسان أو القلم فلا تؤيد فعله، ولا ترض به، وحذر الناس منه، فإنه داعية بلاء وفتنة، ولا يريد الخير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
 واعلم يا ولدي أنه قد أجمع أهل السنة والجماعة على تحريم الخروج على الحكام الظلمة، والملوك الفسقة بالثورات، أو الانقلابات، أو غير ذلك، للأحاديث الناهية عن الخروج، ولما يترتب على ذلك من فتن، ودماء، ونكبات، وأرزاء، وصار هذا الأصل من أهم أصول أهل السنة التي باينوا بِها الفرق الضالة وأهل الأهواء المارقة، وحرص علماؤهم على تدوينه في مصنفات التوحيد والعقيدة، وكتب السنة.
يقول أبو عثمان الصابوني (ت499): في كتاب “عقيدة أصحاب الحديث”:”ويرى أصحاب الحديث: الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم برًّا كان أو فاجرًا، ويرون الدعاء لهم بالتوفيق والصلاح، ولا يرون الخروج عليهم، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف”.ولقد ذكر الإجماعَ على ذلك جمعٌ من العلماء منهم النووي حيث قال: “وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين”
والأدلة على إجماع أهل السنة على تحريم الخروج على الحاكم الظالم والحكومات الجائرة من الكثرة بمكان منها:النصوص التي ورد فيها الأمر بالطاعة، وعدم نكث البيعة، والصبر على جور الأئمة،:كحديث عبادة t قال:(بايعنا رسول الله  r  على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان )أخرجه مسلم (1709).
قال الكرماني: “في الحديثِ أن السلطانَ لا ينعزلُ بالفسق، إذ في عزله سببٌ للفتنة، وإراقةُ الدماء، وتفريقُ ذات البين، فالمفسدةُ في عزله أكثر منها في بقائه”
ومن هنا يتضح لك لماذا لم يخلع أئمة السلف الطاغية الشهير الحجاج بن يوسف رغم ظلمه وطغيانه.
 كما لا يجوز لك أن تفتات على الحاكم فيما هو من خصائصه وصميم عمله ومسؤولياته! ومن صور الافتيات تغيير المنكر بالقدر الذي لا يليق إلا بالسلطان، ومن صوره الدعوة إلى الجهاد دون إذن ولي الأمر.
وإياك أن تدعو على حاكمك وولي أمرك، فليس ذلك من صفات أهل السنة، وفي ذلك يقول الإمام البربهاري: “إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان، فاعلم أنه صاحب هوى”.
 ومن مخالفات البيعة التي يجب أن تجتنبها: كتمُ ما يجبُ أن يَعلمَ به الحكام والمسؤولون، فقد يكون واجبا أو مستحبا، حتى عن إنسان معين أنه يرتكب كذا وكذا من المنكرات، أو جماعة  معينة أنها ستقوم بأعمال شغب أو تخريب، ليُستعان بذلك على تغيير  المنكر ووأد الفتنة.
وهذه الحقوق ليست لأشخاصهم! بل لمصلحة المسلمين، وانتظام أمورهم، فلا تسمع لمن يلقي على سمعك بعكس هذا ياولدي.