الوفاء بالديون

الوفاءُ بالديون واجب شرعي أكيد

بل هو من أعظم الواجبات الشرعية، لأن حقوقَ العبادِ مبنية في الإسلام على الشدة والمشاححة، وليس على التساهل والمسامحة.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحذير من الاستدانة لغير ضرورة، كما حذَّرَ مِنْ عدمِ ردِّ الديون إلى أصحابها، وأخبر أن من مات وعليه دَينٌ عُذبَ في قبره، حتى إن الشهيد يُغفر له كلُّ شيئ إلا الدَّين.
كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تأخير القضاء مع القدرة على السداد، فإن ذلك من الظلم للدائن، الذي أحسن إلى المديون فأقرضه، ونفسَ كربته، قالَ صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: مطل الغني ظلم!

أخي المدين: لابد أن تعزِم على تسديدِ ديونك

وأن تغلق ملفَ الديون للأبد، ولتكن همتك عالية، لِتتحول من قائمة المدينين المعسرين إلى قائمة الدائنين الطيبين، الذين يساعدون الناس بإقراضهم، وبالتنازل عن بعض ديونهم، أو عن كلِّ ديونهم.
لاسيما وقد علمتَ من المقالة الماضية، أن ثوابَ المقرضِ ضعفُ ثوابِ الصدقة، وأن الله سبحانه وعد من أنظر معسراً، أو تنازل له عن دينهِ كلهِ أو بعضه، بأن يظلَّه في ظل عرشهِ، وأن يتجاوزَ عنه كما تجاوزَ عن دينِ أخيه، وأن ييسر عليه في الدنيا والأخرة.

عزيزي المدين: الخُطوة الأولى لسدادِ ديونك

سهلة جداً وميسورة، فقط اعزِم على السداد، هل هذا صعب؟!
إذا استلفت بنيةِ عدم السداد، فلن تقضي دينك، وسيمحق الله البركةَ في أموالك، وسيتلُّف أموالك فلن تستفيد منها.
ألم تسمع نبيك صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري يقول:« مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ».
إن العجبَ لا ينتهي ممن يقترضُ بنية عدم السداد، ويقسمُ بالله كاذباً أنه سيقضي دينه، ليأكل أموالَ الناس بالباطل، ألم يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: «مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» .
 فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ :«وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» أخرجه مسلم

عزيزي المدين: اعزم عزماً أكيداً أن تسدد في الوقت المتفق عليه

بل قَبله، وكن على يقين بأن الله سيعينُك على السداد، وأنه سيبسطُ عليك من رزقهِ وفضله وبركته.
أكثر من الاستغفار، (هل في ذلك صعوبة) فإن الاستغفار سيفتح لك أبواب الرزق، وأكثر من شكر الله،( أمر سهل أيضا) فإن شكرَ الله سيجلب لك المزيد من الرزق.
واتق الله في السر والعلانية، وفي أمورك كلها، وأبشر فإن الله يقول: “وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ”
وأكثر من الدعاء، لا سيما دعاءَ قضاء الديون،  « قُلِ: اللَّهُمَّ اكْفِنِى بِحَلاَلِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِى بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ »
وادعُ بما علَّمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ:«ألا أعلمك دعاءً تدعو به، لو كان عليك مثلُ جبلِ أُحُدٍ دينًا لأدَّاه الله عنك.
 قل يا معاذ: “اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
 تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ
 وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ
 وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ
 وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
 بِيَدِكِ الْخَيْرُ
 إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
 رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا
 تُعطيهما مَن تشاءُ
 وتمنع منهما مَن تشاء
 ارْحَمْنِي رَحْمَةً تُغْنِيني بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاك”» وهذا الحديثُ أخرجه الطبرانى، وجوِّد إسنادَه المنذري
عوِّد نفسك ألا تقبل من الأحاديث إلا ما كان صحيحا أو حسناً أو جيدا

أخي المدين: عليك بالقناعة ووضعِ ميزانية خاصة، تكون الديونُ فيها على رأس الأولويات

عليك بخفض نفقاتك قدر الإمكان
وابحث عن وسائل للاقتصاد في المصاريف
لابد من اختزال النفقات
فسدادُ الديون والتبذير لا يجتمعان عند من عليه ديون، يريد التخلص منها.

على قد لحافك مِد رجليك

أخي المدين، فالإسراف، والكماليات، والمظاهر الكاذبة، والتوسع في الشراء، أمور لا تنبغي لمن عليه ديون.

إذا تأخرت يوماً عن قضاء دينك، تواصل مع دائنيك، وتحدث معهم، وأطلعهم على ظروفك بمنتهى الأمانة، إن تجاهلَك لهم أمرٌ يثيرُ غضبَهم لابد أن تكف عنه.

نهيب بالمجتمع وبأهل الخير،

أن يُقدموا الدعم المادي والمعنوي لمن عليه دين، وأن يرشدوا الدائنين إلى أن يخففوا عن المدينين ابتغاء وجه ربهم الكريم، طلبا للأجر الكبير، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرْشِدُ الدَّائنين إلى إنظار المعسرين، وَوَضْعِ الدَّين عنهم.
فَرَوَى الشَّيْخَان عن كعب بن مالك: أنَّه تقاضى ابنَ أبي حدرد دَيْنًا، كان له عليه فِي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي المسجد، فارتفعت أصواتُهما، حتَّى سَمِعَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فِي بَيْتِه، فَخَرَجَ إليهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، يعني الستارة، ونادى كعبَ بن مالك، فقال: «يا كعب!» فقال: لبَّيْكَ يا رسول الله. فأشار صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ أن ضَعِ الشَّطْرَ من ديْنِكَ. وفِي رواية: « فأشار بِيَدِهِ، كأنَّه يقول: النِّصف. فأخذ كعبٌ نصفَ مالِهِ، وتَرَكَ نِصْفًا.
ولقد كان السلف الصالحُ يشفعون للمدينين المعسرين، في أن يتنازل الدائنون عن بعض الدين الذي لهم عليهم.
فروى ابنُ أبي الدُّنيا، عن الشعبِيِّ قال: كان لعبد الله بن جعفر على رجلٍ من أهل المدينة خمسون ألفًا، فاستعان المديون بعبيد الله بن عبَّاس فِي أن يتنازل عبد الله بن جعفر عن بعضِ دينه، فقال عبد الله بن جعفر لابن عمه عبيد الله بن عباس: قد حَطَطْتُ عنه شَطْرَها، وأَخَّرْتُه بالشَّطْرِ الآخَرِ إلى ميسرة.
فجزاه عبيد الله بنُ عباس خيرًا، وشكره وانصرف، فأتبعه ابن جعفر رسولاً يقول له:
إنِّي قد طيَّبْتُ له النِّصفَ الآخرَ.
وفي زماننا، رجلٌ من الصالحين أتمنى أن يسمعني، كان من دأبه أن يمشي إلى المكاتب العقارية، ويسألَ الموظفين عن المستأجرين الذين تأخروا في السداد، فيقومُ بالسداد عنهم، فإذا أتوا لكي يدفعوا ما عليهم، قال لهم الموظفون: سَدَّد عنكم فاعل خير.
أعرف رجلاً آخر من أهل الإمارات الطيبين إذا طلبت منه ثمانيةَ آلاف مثلا، أعطاك عشراً، ويقول لك: سدد ثمانية والألفان هديةٌ مني، طبعا لن أذكر اسمه، لأنه لا يحب ذلك، وأيضا حتى لا يكثرَ المقترضون حوله.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قصةً أغرب من الخيال، إنها قصة من قصص الزمان الأول، تحكي أنموذجا رائعا للدائنين الأخيار والمدينين الأوفياء، لولا أنه صلى الله عليه وسلم ذكرها، ما صدقناها، فهو الصادقُ المصدوق، رواها الإمام البخاري في صحيحه تعليقا، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما معناه
ذكر أن رجلاً  تاجراً من بني إسرائيل، كان في بلدةٍ على ساحل البحر، أراد أن يسافر للتجارة, واحتاج إلى أَنْ يقترضَ أَلْفَ دِينَارٍ، وهو مبلغ كبير جداً، يزيد عن نصف مليون درهم، احتاج هذا التاجر إلى ألف دينار، فبحث عمن يقرضه، فيسر الله له رجلاً صالحاً من الأغنياء.
 فطلب منه هذا الغني أن يأتي بالشهداء ليشهدهم.
 فقال التاجر: كفى بالله شهيداً
 فقال الغني: فائتني بالكفيل –أي ائتني بمن يضمنك-
 فقال التاجر: كفى بالله كفيلاً)
 (فقال الغني صدقت) كفى بالله شهيداً وكفى بالله كفيلاً، فأعطاه الألفَ دينار إلى أجل مسمى، فلابد في الديون من الاتفاق على موعدٍ للقضاء
 فسافر التاجرُ في البحر، وقضى حاجتَه من التجارة، وعندما اقترب موعدُ السداد, أراد أن يرجع إلى البلد التي فيها الغني الذي أقرضه, ليقضي الدين في الموعد المحدد , ولكنه لم يجد مركباً أو سفينة تحمله إلى بلده, وتذكر وعده الذي وعده , وتذكرَ شهادةَ الله وكفالتَه لهذا الدين, فماذا سيفعل؟ وقد جعل الله عليه شاهدا وكفيلا؟
 مهما يكن فلابد أن يقضي دينه في الوقت المحدد، إنها حقوقُ العباد وقد بُنيت على المشاححة والتشدد.
 ففكر في طريقةٍ يوصل بها المال في موعده
ماذا سيفعل؟
 فما كان منه إلا أن أخذ خشبة ثم حفرها, , فكانت كالصندوق، وأدخل فيها الألف الدينار, وأرفق معها رسالة لصاحب الدين، يبينُ فيها ما حصل له، ثم أحكمَ إغلاقها.
 ثم وقف على ساحل البحر، متوكلا على الله فَقَالَ
 اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّى كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلاَنًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِى كَفِيلًا، فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِىَ بِكَ، وَسَأَلَنِى شَهِيدًا، فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِىَ بِكَ، وَأَنِّى جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا، أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِى لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ
ورمى بالخشبةِ وما فيها من الدنانير في عرض البحر , وهو واثق بالله , متوكل عليه , مطمئن أنه استودعها من لا تضيعُ عنده الودائع
 ثم بقي على الساحل، يتحين مركبا يوصله إلى البلد الذي فيه الغني المقرض.
 وفي هذا الوقت وقد حلَّ موعدُ قضاء الدين، وعلى الجهة الأخرى من شاطئ البحر، خرج الغني المقرض، ليلتقي التاجرَ الذي أسلفه، فقد وعده بقضاءِ دينهِ في هذا الوقت، ها هو يقفُ على الساحل، ينظر أمامه، وعلى يمناه ويسراه، فليس هنالك مراكبُ قادمة، انتظر طويلا لكي يستردَ الألف دينار، لكن دون جدوى، غير أنه لم يفقد الأمل، فقد رضي بالله شهيدا وكفيلا، ولن يُضيعه ربُّه.
 وعندما هم بالرجوع إلى بيته، رمق خشبةً طافية يمكن أن تصلح حطبا، ينتفع بها أهلُ بيته، في طبخ الطعام أو الاستدفاء، فأخذها لأهله، فلما جاء لينشرها بالمنشار، وجد فيها ألفَ دينار، ووجد معها رسالة، كُتب فيها، هذا دَينُ فلان.
 فحمد الغنيُّ المقرضُ ربه وأثنى عليه خيرا، ولم يتعجب من ذلك، فالذي شهد على الدَّين وضمنه هو ربه ومولاه، ومن توكل على الله فهو حسبه.
مضى وقت طويل، والتاجر الدين ما زال على ساحل البحر في الجهة الأحرى، يترقبُ مركبا يحمله للغني المقرض .
 فهو لم يتأكدْ بعدُ من وصول الدين.
 وأخيراً يظهر في الأفق مركب، فركبه حاملاً معه ألفَ دينارٍ أخرى، خوفا من أن تكونَ الألفُ الأولى لم تصل إليه.
 فلما وصل إلى الجهة الأخرى من ساحل البحر، ذهب بسرعة إلى صاحب الدين, فبدأ يبين عذره، وأسبابَ تأخره عن الموعد.
وقال وهو يمد يده إليه بِالأَلْفِ دِينَارٍ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِى طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِى أَتَيْتُ فِيهِ.
 فقال الغني المقرض: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَىَّ بِشَىْء؟
 فقال له التاجرُ معرضاً: أَخْبِرتُكَ أَنِّى لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِى جِئْتُ فِيهِ.
 كأنه يقول تعريضاً: كيف أبعث إليك ولم أجد مركبا، قبل هذا المركب الذي جئتُك فيه!
 ولم يُرد أن يقول له: إني بعثت إليك بالمال في خشبة، فلعله لم يصل إليه.
 إنه يدرك تماما أن ذمته مازالت مشغولةً بدينه، حتى يستلمه منه الغنيُّ الذي أقرضه بطريقةٍ عادية صحيحة، فالمقرضُ ليس مسؤولا عن تصرفه ذاك، المبني على يقين بالله لا يخالطه شك.
 لكن الغنيَ المقرضَ فطِن لمغزى كلام التاجر، فقال له:
 فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ، الَّذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ.
 فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ دِينَارِ رَاشِدًا”

ما أنبل هؤلاء الذين يحسنون إلى البشر، بالتفريج عنهم، والتيسير عليهم، فيقرضونهم، لأنهم علموا أنهم لن يمدوا أيديهم إلى صدقات الناس.
وما أطيب هؤلاء المدينين حينما يحرصون أشد الحرص على الوفاء، وردِّ الحقوق لأصحابها، شاكرين لهم ومقدرين.

وإلى مقال آخر بإذن الله.